التربية الدينية والكنيسة في الحاضر والمستقبل
بقلم المتنيح الأنبا غريغوريوس
إذا أردنا أن نتفكر في الحاضر والمستقبل, معتبرين بالماضي المجيد كان لنا أن نعني بأمور كثيرة, منها:
أ- نشر التعليم الديني:
فليس الإصلاح قصورا نشيدها, وإنما هو نفوس نهذبها وعقول نربيها, وكل ما نهدف إليه من أغراض روحية يمكن أن نبلغه بالتعليم, لذا وجب أن نعمل علي إنشاء المدارس الأولية أو الإلزامية المسيحية. وهنا نقف لنثني بوافر التقدير للمجهود العظيم الذي تقوم به بعض هيئاتنا لتربية الطفولة. إن هذا المشروع الجليل يفتقر إلي أن نعضده بإيماننا وصلواتنا, وننفحه تشجيعا متواصلا أدبيا وماديا, حتي يمكن أن ينتظم في جميع القري والأحياء والكفور, لكي لا يبقي طفل قبطي, ولدا كان أو بنتا, بلا تعليم أو دين.
وفي الوقت الذي نثني علي المهتمين بتربية الطفولة ننظر نظرة عتاب حار إلي مدارسنا القبطية الأخري ابتدائية وثانوية, للبنين والبنات, التي أنشأتها جمعياتنا القبطية من جيوب الشعب القبطي ولأغراض دينية لا تجارية, ننظر إليها لنسألها عن الغرض الأساسي الذي بنيت مدارسها من أجله, وهل بلغته بالفعل؟,أم أنها أنشأت مدارس ليس للدين فيها كرامة أو اعتبار, إذا كان حقا أن له فيها وجودا...؟؟!!
ولابد أيضا من أن يطالب الرؤساء فينا بحقنا الطبيعي في أن يتلقي جميع التلاميذ والطلاب بجميع المدارس الحكومية أصول ديانتهم بمعرفة مدرسين إخصائيين من الكلية الإكليريكية.
ولابد كذلك من أن نعمل علي تعميم مدارس الأحد في أوسع نطاق ممكن, ولكنها يجب أن تخضع جميعا لبرنامج ثقافي موحد وهو الذي تضعه اللجنة العليا لمدارس الأحد, حفظا لسلامة التعليم وحرصا علي وحدانية الروح.
وأما بالنسبة لسائر أفراد الشعب في الكنائس, فهو في مسيس الحاجة إلي الوعظ التعليمي أكثر منه إلي الوعظ التأثيري. نعم الوعظ التعليمي!! والذي يشتمل علي جميع ما يجب علي الشعب أن يعرفه من الحقائق الروحية واللاهوتية والأدبية والطقسية والتاريخية والاجتماعية والعلمية والدينية...إلخ.
كذلك يجب أن نعني بالكتب والمجلات, لنودعها عقائدنا وروحنا وتراثنا وأمانينا ليشتغل بالتفكير فيها جمهور الشعب من شيب وشباب.
ب- الارتباط بالكنيسة روحيا, والعمل علي خدمتها عمليا:
وإذا كان التعليم الديني أول خطوة نخطوها, فهذه هي الخطوة الثانية أن نحتسب الكنيسة أمنا نخلص لمحبتها بكل قلوبنا, ونلتصق بها فلا نفارقها, نشبع من طقوسها وصلواتها ونرتوي من نبع تعليمها ونواظب علي التردد إليها, ونتقرب إلي جميع أسرارها ونندمج في جوها, ونعمل بوحي عقيدتها وروحها, موقنين أن الخلاص بدونها مستحيل لأنها هي كنيسة المسيح التي أودع فيها ينابيع الخلاص.
ثم نساهم بطريقة فعالة في كل احتياجاتها علي قدر ما في طاقتنا, ونوجه علومنا ومعارفنا ومواهبنا وكفاياتنا في خدمتها, وإن الطلبة لعليهم منذ الآن واجب خطير هو أن يعملوا علي تثقيف نفوسهم ويجاهدوا ليحصلوا علي أرقي الدرجات العلمية والفنية, فيشرفوا أمتهم ويبرهنوا علي عبقريتهم القبطية, وبذلك يتمكنون من معونة كنيستهم حين يحصلون علي شهادات يحترمها جميع المواطنين فضلا عن أن الدرس والتحصيل يملأ فراغ شبابنا بأمور نافعة ومفيدة ترقي بها عقولهم وتسمو بها نفوسهم فيزداد علي الأيام إحساسهم بقيمة الوقت.
ج- الاتصاف بالفضائل القبطية في أعمالنا:
هذه الصفات التي عرفنا بها منذ القديم وهي الأمانة والنزاهة والإخلاص والشعور بأن رقيبنا علي أعمالنا ليس هو الرؤساء بل الله الذي يفحص ضمائرنا.
هذه الصفات التي تميزنا بها في القديم, حتي لقد كان القبطي يؤتمن علي أموال الدولة أكثر من غيره, كما كان يأتمنه المسلم أحيانا علي ماله أكثر مما يأتمن قريبه المسلم.
ومن آيات ذلك قصص كثيرة يند عنها الحصر, ولعل الواقعة الآتية واحدة من تلك الوقائع التي يعرفها الكثيرون من مواطنينا.
أراد أحدهم أن يحج إلي بلاد الحجاز, وكانت الطرق غير مأمونة في تلك الأيام فاتجه إلي صديقه القبطي بطرس حنا وكاشفه بعزمه علي الحج, وإنه لثقته فيه سيودع عنده صرة مال فإذا عاد أخذها منه, وأما إذا أصابه مكروه فقد صارت حلالا له, وحدث أن تغيب الرجل في الحجاز مدة كبيرة نحو خمسة عشر عاما أو يزيد, كان أثناءها بطرس حنا قد ارتأي أن ينقل محله التجاري إلي مكان آخر, ولكن قبطيا آخر بنفس الاسم قبل أن يحل في محله, فترك كل شئ له وانتقل هو إلي المكان الذي يريده, فلما عاد المسلم من الحجاز بعد أن تهيأت له أسباب العودة ذهب بسرعة حيث صديقه وقرأ اللافتة باسم بطرس حنا ثم حياه ولم يلفت نظره كثيرا الاختلاف بين صاحب المحل وصديقه, نظرا لطول المدة التي قضاها بعيدا عن البلاد, ولكنه لاحظ أن الصديق القبطي لم يحيه التحية اللائقة بمن كان في سفر, فعرفه شخصه وسأله الوديعة, فأنكر,فلم يتمالك الرجل أعصابه, واشتبك معه في شجار وسبه ولعنه بالخيانة والغدر, وأخيرا اتجه إلي البابا البطريرك ليشكوه إليه, فاستدعاه البابا وسأله أن يرد الوديعة لصاحبها بعد أن زوده بالنصائح والمواعظ, فأنكر الرجل أنه يعرف شيئا عن الوديعة, وكل هذا ولم ينتبه أحد منهما إلي أن الصديق القديم قد غير مكانه ولم يجد المسلم حلا للإشكال إلا أن يطلب من الرجل أن يحلف اليمين أمام البابا البطريرك, فأبي الرجل مفضلا أن يدفع المبلغ وهو مظلوم عن أن يخالف أمر السيد المسيح في القسم, ومضي الرجل فباع كل ما كان يملك حتي أصبح لايكاد يملك شيئا, ولكن القصة لم تنته بعد, إذا أن الرجل المسلم في يوم ما, شاء الله أن يلتقي بصديقه القديم, فإذا به يحييه في شوق ومحبة متفاضلة وبينما المسلم مشدوه يتأمل في صديقه. إذا به يسمعه يقولمالك منذهلا, ألعلك نسيتني. وهذه هي العلامة: صرة المال التي أودعتها عندي, فأمسك الرجل الصرة ورأي أنها بالحقيقة هي, وأن صديقه لم يمد يده إليها, فثار عليه ضميره وكاشف صديقه بما حدث منه حيال الرجل الآخر, فعرفه بأمر انتقاله من ذلك المكان. ولكن المسلم أصر علي أن يصحبه إليه ليرد إليه المبلغ فذهب إليه, ولكن الرجل رفض أن يأخذ شيئا, فشكاه إلي البطريرك وذهبوا جميعا بجملتهم, وأمام البابا اعترف الرجل بأنه قد أبي أن يقسم اليمين مؤمنا بالله, فلم ينسه الله بل سخر له وسيلة رد إليه بها ما فقده وأكثر. ذلك أن جاهلا قد مر عليه يوما وقدم له بعض قطع نحاسية قذرة وسأله أن يعطيه قرشا بدلا منها فأعطاه, فأخذها إلي بيته وأخذ يجلوها فاتضح له أنها ذهب, فباعها فكان له الغني العظيم.
استمع الرجل المسلم إلي كل هذا وبصر بهذه الأمانة فركع عند البابا البطريرك وقال لا راحة لضميره إلا إذا قبل دين المسيح, فآمن واعتمد.
وما أكثر ما يحدثك به التاريخ أو شيوخ طاعنون في السن عن الأمانة التي كان يشتهر القبط بها قديما.
د-حاجتنا إلي ثقافة ممتازة لرجال الدين:
إذا كان لكنيستنا ماض في عقيدتها, وإذا كانت قد تزعمت الفكر المسيحي في العالم القديم, فإنما يرجع ذلك إلي ما توافر لرجالها من ثقافة لاهوتية ممتازة تميزت بها الإكليريكية الإسكندرية. ولا يمكن أن نفكر في الإصلاح دون أن تجابهنا هذه الحقيقة. هي أنه علي قدر ما يكون قادة الكنيسة من علم وعرفان بواجباتهم الروحية والكنسية وعلي قدر ما يبلغونه من رسوخ في الفهم والمعرفة الدينية, علي قدر ما يسمو الشعب ويرقي.
أليس من المؤلم حقا أن يبخل الآباء بأحسن أبنائهم عقلا وعلما عن أن يبعثوا بهم إلي الإكليريكية, مفضلين الوظائف العالمية الأخري, وكأن خدمة الله قليلة الشأن, مع أنهم لو تفكروا في شرف هذه المهمة لأحسوا أنها مهمة تعلو علي كل الوظائف الأخري شرفا واعتبارا فضلا عن أنها تضمها كذلك. إن الكاهن طبيب ومحام ومهندس وقاض وقائد وأب وكل شئ:طبيب يداوي النفوس, ومحام عن الحق الإلهي, ومهندس كنيسة الله, وقاض يفصل بين المتخاصمين, وقائد الفكر في كل شعبه, وأب وراع لكل القطيع,فماذا نريد شرفا أكثر؟؟
إننا نصلي أن يحرك الرب مشاعر الغيورين من الشباب ليتجندوا لهذه المهمة الكريمة فالكسب فيها عظيم, لأن بها ربح النفوس, وإذا كانت النفس أعظم من كل ما في الوجود, أفليست وظيفة رجل الدين أرفع من كل الوظائف قدرا.
إن كل ما قدمناه من حديث عن الإصلاح طريق يحتاج إلي وقت طويل لتظهر ثماره ولكن الشاب الغيور الذي يريد نتيجة عاجلة, يمكنه أن يشارك بنفسه في سبيل الإصلاح حين يقدم نفسه ليخدم الرب.
كلمة ختامية:
عندي أن أدواء كنيستنا اليوم تتلخص في كلمتين أولاهما:تنازع الاختصاص, وثانيتهما: توزيع الجهود, أيا ليت كل فرد في كنيستنا يعلم حدود اختصاصه, ويعمل بكل قواه في داخل حدوده, ولا يعتدي علي غيره, ولا يصطدم بعمل غيره, ولاينافسه فيه, متي يأتي الزمن الذي تتحول فيه جمعياتنا في قلب المدينة الواحدة إلي مجموعة لجان لكل غرضها الخاص يؤلف بينها روح واحدة. في ذلك اليوم يشعر كل واحد بحاجته إلي الآخر فيتضامن مع الإخوة. وياليت كل فرد في كنيستنا ممن يخدمون في محيطها أن يقصر جهوده علي ناحية واحدة يخلص لها ويكرس كل جهده فيها. إذن لكنا ننتج أضعافا مضاعفة, لو عرفت هذه الحقيقة جمعياتنا لأتخذت لنفسها غرضا واحدا تسعي لتحقيقه, عوضا عن أن تربك نفسها في خمسة أغراض أو ستة تشاركها فيها جمعيات كثيرة مما يدعوها جميعا إلي التشاحن وإلي ضياع جهود كبيرة تعطل العمل كله. أجل ما أبعد الفرق بين نهر النيل حين كان ينقسم عند رأس الدلتا إلي فروع كثيرة. فكان الوجه البحري مجموعة مستنقعات لاتصلح لشئ إلا أن تكون موئلا للميكروبات والحشرات والحيوانات, وبين نهر النيل اليوم وقد اتضح مجراه وانحسرت مياهه عن الأراضي المحيطة به إلي اتجاه واضح عميق. وترك للأرض أن تغل وأن تثمر وأن تستحيل إلي يابسة تبني عليها العمائر والدور؟!!!
بقلم المتنيح الأنبا غريغوريوس
إذا أردنا أن نتفكر في الحاضر والمستقبل, معتبرين بالماضي المجيد كان لنا أن نعني بأمور كثيرة, منها:
أ- نشر التعليم الديني:
فليس الإصلاح قصورا نشيدها, وإنما هو نفوس نهذبها وعقول نربيها, وكل ما نهدف إليه من أغراض روحية يمكن أن نبلغه بالتعليم, لذا وجب أن نعمل علي إنشاء المدارس الأولية أو الإلزامية المسيحية. وهنا نقف لنثني بوافر التقدير للمجهود العظيم الذي تقوم به بعض هيئاتنا لتربية الطفولة. إن هذا المشروع الجليل يفتقر إلي أن نعضده بإيماننا وصلواتنا, وننفحه تشجيعا متواصلا أدبيا وماديا, حتي يمكن أن ينتظم في جميع القري والأحياء والكفور, لكي لا يبقي طفل قبطي, ولدا كان أو بنتا, بلا تعليم أو دين.
وفي الوقت الذي نثني علي المهتمين بتربية الطفولة ننظر نظرة عتاب حار إلي مدارسنا القبطية الأخري ابتدائية وثانوية, للبنين والبنات, التي أنشأتها جمعياتنا القبطية من جيوب الشعب القبطي ولأغراض دينية لا تجارية, ننظر إليها لنسألها عن الغرض الأساسي الذي بنيت مدارسها من أجله, وهل بلغته بالفعل؟,أم أنها أنشأت مدارس ليس للدين فيها كرامة أو اعتبار, إذا كان حقا أن له فيها وجودا...؟؟!!
ولابد أيضا من أن يطالب الرؤساء فينا بحقنا الطبيعي في أن يتلقي جميع التلاميذ والطلاب بجميع المدارس الحكومية أصول ديانتهم بمعرفة مدرسين إخصائيين من الكلية الإكليريكية.
ولابد كذلك من أن نعمل علي تعميم مدارس الأحد في أوسع نطاق ممكن, ولكنها يجب أن تخضع جميعا لبرنامج ثقافي موحد وهو الذي تضعه اللجنة العليا لمدارس الأحد, حفظا لسلامة التعليم وحرصا علي وحدانية الروح.
وأما بالنسبة لسائر أفراد الشعب في الكنائس, فهو في مسيس الحاجة إلي الوعظ التعليمي أكثر منه إلي الوعظ التأثيري. نعم الوعظ التعليمي!! والذي يشتمل علي جميع ما يجب علي الشعب أن يعرفه من الحقائق الروحية واللاهوتية والأدبية والطقسية والتاريخية والاجتماعية والعلمية والدينية...إلخ.
كذلك يجب أن نعني بالكتب والمجلات, لنودعها عقائدنا وروحنا وتراثنا وأمانينا ليشتغل بالتفكير فيها جمهور الشعب من شيب وشباب.
ب- الارتباط بالكنيسة روحيا, والعمل علي خدمتها عمليا:
وإذا كان التعليم الديني أول خطوة نخطوها, فهذه هي الخطوة الثانية أن نحتسب الكنيسة أمنا نخلص لمحبتها بكل قلوبنا, ونلتصق بها فلا نفارقها, نشبع من طقوسها وصلواتها ونرتوي من نبع تعليمها ونواظب علي التردد إليها, ونتقرب إلي جميع أسرارها ونندمج في جوها, ونعمل بوحي عقيدتها وروحها, موقنين أن الخلاص بدونها مستحيل لأنها هي كنيسة المسيح التي أودع فيها ينابيع الخلاص.
ثم نساهم بطريقة فعالة في كل احتياجاتها علي قدر ما في طاقتنا, ونوجه علومنا ومعارفنا ومواهبنا وكفاياتنا في خدمتها, وإن الطلبة لعليهم منذ الآن واجب خطير هو أن يعملوا علي تثقيف نفوسهم ويجاهدوا ليحصلوا علي أرقي الدرجات العلمية والفنية, فيشرفوا أمتهم ويبرهنوا علي عبقريتهم القبطية, وبذلك يتمكنون من معونة كنيستهم حين يحصلون علي شهادات يحترمها جميع المواطنين فضلا عن أن الدرس والتحصيل يملأ فراغ شبابنا بأمور نافعة ومفيدة ترقي بها عقولهم وتسمو بها نفوسهم فيزداد علي الأيام إحساسهم بقيمة الوقت.
ج- الاتصاف بالفضائل القبطية في أعمالنا:
هذه الصفات التي عرفنا بها منذ القديم وهي الأمانة والنزاهة والإخلاص والشعور بأن رقيبنا علي أعمالنا ليس هو الرؤساء بل الله الذي يفحص ضمائرنا.
هذه الصفات التي تميزنا بها في القديم, حتي لقد كان القبطي يؤتمن علي أموال الدولة أكثر من غيره, كما كان يأتمنه المسلم أحيانا علي ماله أكثر مما يأتمن قريبه المسلم.
ومن آيات ذلك قصص كثيرة يند عنها الحصر, ولعل الواقعة الآتية واحدة من تلك الوقائع التي يعرفها الكثيرون من مواطنينا.
أراد أحدهم أن يحج إلي بلاد الحجاز, وكانت الطرق غير مأمونة في تلك الأيام فاتجه إلي صديقه القبطي بطرس حنا وكاشفه بعزمه علي الحج, وإنه لثقته فيه سيودع عنده صرة مال فإذا عاد أخذها منه, وأما إذا أصابه مكروه فقد صارت حلالا له, وحدث أن تغيب الرجل في الحجاز مدة كبيرة نحو خمسة عشر عاما أو يزيد, كان أثناءها بطرس حنا قد ارتأي أن ينقل محله التجاري إلي مكان آخر, ولكن قبطيا آخر بنفس الاسم قبل أن يحل في محله, فترك كل شئ له وانتقل هو إلي المكان الذي يريده, فلما عاد المسلم من الحجاز بعد أن تهيأت له أسباب العودة ذهب بسرعة حيث صديقه وقرأ اللافتة باسم بطرس حنا ثم حياه ولم يلفت نظره كثيرا الاختلاف بين صاحب المحل وصديقه, نظرا لطول المدة التي قضاها بعيدا عن البلاد, ولكنه لاحظ أن الصديق القبطي لم يحيه التحية اللائقة بمن كان في سفر, فعرفه شخصه وسأله الوديعة, فأنكر,فلم يتمالك الرجل أعصابه, واشتبك معه في شجار وسبه ولعنه بالخيانة والغدر, وأخيرا اتجه إلي البابا البطريرك ليشكوه إليه, فاستدعاه البابا وسأله أن يرد الوديعة لصاحبها بعد أن زوده بالنصائح والمواعظ, فأنكر الرجل أنه يعرف شيئا عن الوديعة, وكل هذا ولم ينتبه أحد منهما إلي أن الصديق القديم قد غير مكانه ولم يجد المسلم حلا للإشكال إلا أن يطلب من الرجل أن يحلف اليمين أمام البابا البطريرك, فأبي الرجل مفضلا أن يدفع المبلغ وهو مظلوم عن أن يخالف أمر السيد المسيح في القسم, ومضي الرجل فباع كل ما كان يملك حتي أصبح لايكاد يملك شيئا, ولكن القصة لم تنته بعد, إذا أن الرجل المسلم في يوم ما, شاء الله أن يلتقي بصديقه القديم, فإذا به يحييه في شوق ومحبة متفاضلة وبينما المسلم مشدوه يتأمل في صديقه. إذا به يسمعه يقولمالك منذهلا, ألعلك نسيتني. وهذه هي العلامة: صرة المال التي أودعتها عندي, فأمسك الرجل الصرة ورأي أنها بالحقيقة هي, وأن صديقه لم يمد يده إليها, فثار عليه ضميره وكاشف صديقه بما حدث منه حيال الرجل الآخر, فعرفه بأمر انتقاله من ذلك المكان. ولكن المسلم أصر علي أن يصحبه إليه ليرد إليه المبلغ فذهب إليه, ولكن الرجل رفض أن يأخذ شيئا, فشكاه إلي البطريرك وذهبوا جميعا بجملتهم, وأمام البابا اعترف الرجل بأنه قد أبي أن يقسم اليمين مؤمنا بالله, فلم ينسه الله بل سخر له وسيلة رد إليه بها ما فقده وأكثر. ذلك أن جاهلا قد مر عليه يوما وقدم له بعض قطع نحاسية قذرة وسأله أن يعطيه قرشا بدلا منها فأعطاه, فأخذها إلي بيته وأخذ يجلوها فاتضح له أنها ذهب, فباعها فكان له الغني العظيم.
استمع الرجل المسلم إلي كل هذا وبصر بهذه الأمانة فركع عند البابا البطريرك وقال لا راحة لضميره إلا إذا قبل دين المسيح, فآمن واعتمد.
وما أكثر ما يحدثك به التاريخ أو شيوخ طاعنون في السن عن الأمانة التي كان يشتهر القبط بها قديما.
د-حاجتنا إلي ثقافة ممتازة لرجال الدين:
إذا كان لكنيستنا ماض في عقيدتها, وإذا كانت قد تزعمت الفكر المسيحي في العالم القديم, فإنما يرجع ذلك إلي ما توافر لرجالها من ثقافة لاهوتية ممتازة تميزت بها الإكليريكية الإسكندرية. ولا يمكن أن نفكر في الإصلاح دون أن تجابهنا هذه الحقيقة. هي أنه علي قدر ما يكون قادة الكنيسة من علم وعرفان بواجباتهم الروحية والكنسية وعلي قدر ما يبلغونه من رسوخ في الفهم والمعرفة الدينية, علي قدر ما يسمو الشعب ويرقي.
أليس من المؤلم حقا أن يبخل الآباء بأحسن أبنائهم عقلا وعلما عن أن يبعثوا بهم إلي الإكليريكية, مفضلين الوظائف العالمية الأخري, وكأن خدمة الله قليلة الشأن, مع أنهم لو تفكروا في شرف هذه المهمة لأحسوا أنها مهمة تعلو علي كل الوظائف الأخري شرفا واعتبارا فضلا عن أنها تضمها كذلك. إن الكاهن طبيب ومحام ومهندس وقاض وقائد وأب وكل شئ:طبيب يداوي النفوس, ومحام عن الحق الإلهي, ومهندس كنيسة الله, وقاض يفصل بين المتخاصمين, وقائد الفكر في كل شعبه, وأب وراع لكل القطيع,فماذا نريد شرفا أكثر؟؟
إننا نصلي أن يحرك الرب مشاعر الغيورين من الشباب ليتجندوا لهذه المهمة الكريمة فالكسب فيها عظيم, لأن بها ربح النفوس, وإذا كانت النفس أعظم من كل ما في الوجود, أفليست وظيفة رجل الدين أرفع من كل الوظائف قدرا.
إن كل ما قدمناه من حديث عن الإصلاح طريق يحتاج إلي وقت طويل لتظهر ثماره ولكن الشاب الغيور الذي يريد نتيجة عاجلة, يمكنه أن يشارك بنفسه في سبيل الإصلاح حين يقدم نفسه ليخدم الرب.
كلمة ختامية:
عندي أن أدواء كنيستنا اليوم تتلخص في كلمتين أولاهما:تنازع الاختصاص, وثانيتهما: توزيع الجهود, أيا ليت كل فرد في كنيستنا يعلم حدود اختصاصه, ويعمل بكل قواه في داخل حدوده, ولا يعتدي علي غيره, ولا يصطدم بعمل غيره, ولاينافسه فيه, متي يأتي الزمن الذي تتحول فيه جمعياتنا في قلب المدينة الواحدة إلي مجموعة لجان لكل غرضها الخاص يؤلف بينها روح واحدة. في ذلك اليوم يشعر كل واحد بحاجته إلي الآخر فيتضامن مع الإخوة. وياليت كل فرد في كنيستنا ممن يخدمون في محيطها أن يقصر جهوده علي ناحية واحدة يخلص لها ويكرس كل جهده فيها. إذن لكنا ننتج أضعافا مضاعفة, لو عرفت هذه الحقيقة جمعياتنا لأتخذت لنفسها غرضا واحدا تسعي لتحقيقه, عوضا عن أن تربك نفسها في خمسة أغراض أو ستة تشاركها فيها جمعيات كثيرة مما يدعوها جميعا إلي التشاحن وإلي ضياع جهود كبيرة تعطل العمل كله. أجل ما أبعد الفرق بين نهر النيل حين كان ينقسم عند رأس الدلتا إلي فروع كثيرة. فكان الوجه البحري مجموعة مستنقعات لاتصلح لشئ إلا أن تكون موئلا للميكروبات والحشرات والحيوانات, وبين نهر النيل اليوم وقد اتضح مجراه وانحسرت مياهه عن الأراضي المحيطة به إلي اتجاه واضح عميق. وترك للأرض أن تغل وأن تثمر وأن تستحيل إلي يابسة تبني عليها العمائر والدور؟!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق