أقوال بعضِ القديسين في الدينونة 2 |
قيل: سأل أحدُ الإخوةِ شيخاً قائلاً: «ما السبب في أني أدين الإخوةَ دائماً»؟ فأجابه الشيخُ: «لأنك ما عرفتَ ذاتك بعد، لأن من عرف ذاته، لا ينظر عيوبَ إخوتِهِ». قيل كذلك: كان أخان في كنوبيون، واستحق أن ينظرَ كلٌّ منهما نعمةَ اللهِ على أخيه. فعرض لأحدِهما أن يخرجَ يومَ الجمعةِ خارج الكنوبيون، فرأى إنساناً يأكل مبكراً، فقال له: «أفي هذا الوقت تأكل يومَ الجمعةِ»؟ ولما كان الغدُ رآه أخوه ولم يبصرْ عليه النعمةَ التي كانت تُرى عليه، فحزن لذلك، ولما جاء إلى قلايتهِ قال له: «ماذا عملتَ يا أخي»؟ قال: «ما عملتُ شيئاً حتى ولا فكرتُ فكراً رديئاً». قال له: «ألم تتكلم بشيءٍ»؟ فقال: «نعم، بالأمسِ رأيتُ إنساناً خارج الكنوبيون يأكلُ مبكراً، فقلت له: أفي هذا الوقت تأكل يومَ الجمعةِ»؟ فقام بالتكفير عن ذلك مدة أسبوعين، وسأل الله بتعبٍ، فظهرت نعمةُ اللهِ على الأخِ، فشكرا الله كلاهما. قال أحدُ الآباء: إن أخاً من الإخوةِ جاء إلى آخر، وتحدَّثا بشأنِ أخٍ لا يحفظُ العفةَ، فأجاب الآخرُ وقال: «وأنا سمعتُ بهذا أيضاً». فلما مضى ذلك الأخ إلى قلايتهِ لم يجد فيها الراحةَ التي تعوَّدها. فقام ورجع إلى ذلك الأخ وضرب له مطانية قائلاً: «اغفر لي، فإني لم أسمع شيئاً عن ذلك الأخ». فقال له الآخر كذلك: «ولا أنا سمعتُ شيئاً». فلما ندما على ما قالا وجدا راحةً. قال أخٌ للأب بيمين: «إن أنا رأيتُ أخاً قد سمعتُ عنه سماعاً قبيحاً، فهل من الواجبِ عليِّ ألا أُدخله قلايتي؟ وإن رأيتُ أخاً صالحاً، فهل أفرحُ به»؟ فأجابه الشيخ: «إن أنت صنعتَ مع الأخ الصالح خيراً قليلاً، فاصنع ضِعفَه مع ذاك، لأنه أخٌ مريض». قال القديس أنسطاسيوس: «لا تكن ديَّاناً لأخيك، لتؤهَّل أنت للغفران، فربما تراه آثِماً خاطئاً، لكنك لا تعلم بأي خاتمةٍ يفارق العالم، فذلك اللصُ المصلوب مع يسوع، كان للناسِ قتالاً وللدماء سفاكاً، ويوداس الرسول كان تلميذاً للمسيح ومن الأخصاء، إذ كان الصندوق عنده، إلا أنهما في زمنٍ يسير تغيَّرا، فدخل اللصُ الفردوسَ، واستحق التلميذ المشنقةَ وهلك». وقال أيضاً: إن أخاً من الرهبانِ كان يسير بتوانٍ كثير، هذا وُجِدَ على فراشِ الموتِ وهو في النزعِ الأخير بدون جزعٍ من الموتِ. بل كانت نفسُه عند انتقالهِ في فرحٍ كاملٍ وسرورٍ شاملٍ. وكان الآباءُ وقتئذ جلوساً حوله، لأنه كانت العادةُ في الديرِ أن يجتمعَ الرهبانُ كلُّهم أثناء موتِ أحدهم ليشاهدوه، فقال أحدُ الشيوخِ للأخِ الذي يموت: «يا أخانا، نحن نعلم أنك أجزتَ عمركَ بكلِّ توانٍ وتفريط، فمن أين لك هذا الفرحُ والسرور وعدمُ الهمِّ في هذه الساعةِ؟ فإننا بالحقيقةِ لا نعلمُ السرَّ، ولكن بقوةِ الله ربنا تقوَّ واجلس وأخبرنا عن أمرِك العجيب هذا، ليعرفَ كلٌّ منا عظائمَ اللهِ». وللوقت تقوَّى وجلس، وقال: «نعم يا آبائي المكرَّمين، فإني أجزتُ عمري كلَّه بالتواني والنوم، إلا أنه في هذه الساعةِ، أن أحضرَ لي الملائكةُ كتابَ أعمالي التي عملتُها منذ أن ترهبتُ، وقالوا لي: أتعرف هذا؟ قلتُ: نعم، هذا هو عملي، وأنا أعرفه، ولكن من وقتِ أن صِرتُ راهباً ما دِنتُ أحداً من الناسِ قط، ولا نميتُ قط، ولا رقدتُ وفي قلبي حقدٌ على أحدٍ، ولا غضبتُ البتة، وأنا أرجو أن يَكْمُل فيَّ قولُ الرب يسوع المسيح القائل: لا تدينوا لكي لا تدانوا، اتركوا يُترك لكم. فلما قلتُ هذا القولَ، تمزَّق للوقتِ كتابُ خطاياي بسبب إتمامِ هذه الوصية الصغيرة». وإذ فرغ من هذا الكلام أسلم الروحَ. فانتفع الإخوةُ بذلك وسبَّحوا الله. سُئل شيخٌ إن كان الله يقبل توبةَ الخطاةِ، فردَّ على سائلِه قائلاً: «أخبرني أيها الحبيب، لو أن ثوبَك تمزَّق، فهل كنتَ ترميه»؟ قال: «لا، ولكني كنتُ أخيِّطُه وألبسه». فقال الشيخ: «إن كنتَ أنت تشفق على ثوبِك الذي لا يحيا ولا يتنفس، فكيف لا يشفق الله على خليقتِهِ التي تحيا وتتنفس»؟ سأل أحدُ الإخوةِ الأب بيمين قائلا: «يا أبي، إن وقع إنسانٌ في خطيئةٍ ورجع، فهل يغفر الله له»؟ فقال له الشيخ: «إن كان الله قد أمر الناسَ بأن يفعلوا هذا، أفما يفعله هو؟ نعم، بل وأكثر بما لا يقاس، إذ هو نفسُه الذي أوصى بطرسَ بهذا عندما قال له بطرس: إن أخطأ إليَّ أخي سبعَ مراتٍ، أأغفر له؟ فقال له سيدنا المتحنن: لستُ أقولُ سبعَ مراتٍ فقط لكن سبعةً في سبعين». قال شيخ: «إني أهوى الرجلَ الذي يخطئ ويندم ويُقر بخطئهِ، أكثر من الرجلِ الذي يعملُ الصلاحَ ويزكي نفسَه». شيخٌ حَدَّثته أفكارُه قائلةً له: «استرح اليومَ وتُب غداً». فقال: «لن يكونَ ذلك أبداً، بل عليَّ أن أتوبَ اليومَ، ولتكن مشيئةُ الربِ غداً». كذلك حدَّثته أفكارُه من جهةِ الصومِ قائلةً: «كُلْ اليومَ، وتنسكْ غداً». فقال: «لن أفعلَ ذلك، لكني أصومُ اليومَ، وتتم إرادةُ اللهِ غداً». كان إنسانٌ جندي من بلاد الأكراد، قد عمل خطايا كثيرةً ودنَّس جسدَه بكلِّ أصنافِ النجاساتِ، وبرحمةِ اللهِ تَخَشَّع قلبُه، فزهد في العالمِ ومضى إلى موضعٍ قفرٍ، وبنى له قلايةً في أسفل الوادي، وأقام فيها مهتماً بخلاصِ نفسِه. فلما عرف مكانَه بعضُ معارفهِ، صاروا يُحضرون له خبزاً وشراباً وكلَّ حاجاتهِ. فلما رأى ذاتَه في راحةٍ وأصبح لا يُعوزه شيءٌ، حزن وقال في نفسِه: «إننا ما عملنا شيئاً يستوجبُ الراحة، وهذا النياحُ الآن يُفقدني النياحَ الأبدي، لأني لستُ مستوجباً لنياحٍ البتة». وهكذا ترك قلايتَه وانصرف قائلاً: «لنَسِر إلى الضيقةِ، لأنه ينبغي لي أن آكلَ الحشيشَ طعامَ البهائمِ، إذ كنتُ قد فعلتُ أفعالَ البهائمِ». وهكذا أصبح راهباً مجاهداً. قيل عن الأب أموناس: إنه أتاه أخٌ يطلبُ منه كلمةَ منفعةٍ، وأقام عنده سبعةَ أيامٍ، ولم يُجِبه الشيخُ بشيءٍ، وأخيراً قال له: «انطلق وانظر لذاتِك، أما أنا فإني خاطئٌ، وخطاياي قد صارت سحابةً سوداءَ مظلمةً، حاجزةً بيني وبين الله». قال الأب ألينوس: «من لم يَقُل: لا يوجد في هذا الكونِ كلِّه إلا الله وأنا فقط، فلن يصادف نياحاً». وقال أيضاً: «لو لم أكن هدمتُ كلَّ شيءٍ، لما كنتُ قادراً على أن أبني ذاتي». كذلك قال: «لتكن مشيئةُ الإنسانِ من باكر إلى عشية بحسب قياس إلهي». جاء عن الأب بفنوتيوس أنه لما كان في البريةِ، كان مزاجُه صعباً، وأعمالُه بحرارةٍ كثيرةٍ، ولكنه لما صار أسقفاً تغير الحالُ قليلاً، فطرح ذاتَه قدام الله قائلاً: «يا تُرى، أَمِن أجلِ الأسقفيةِ ابتعدتْ عني النعمةُ»؟ فقيل له: «لا، ولكن لما كنتَ في البريةِ، حيث لا يوجد أناسٌ، كان اللهُ يَعْضُدك، أما الآن فإنك في العالمِ حيث يوجد الذين يَعْضُدونك». وما أن علم ذلك حتى هرب لوقتِه إلى البريةِ. كان أنبا أبللو إذا جاءه أحدُ الإخوةِ طالباً معونَتَه في عملِه، فإنه يمضي معه بفرحٍ قائلاً: «لقد حُسِبتُ اليومَ مستحقاً لأن أعملَ مع الملكِ المسيحِ، وذلك أفضلَ جداً من نفسي». قيل عن الأب بيصاريون إنه كان كالطيورِ، وكأحدِ الوحوش البرية، أكمل حياتَه بلا همٍ، ولم يهتم قط ببيتٍ، ولا خزَّن طعاماً، ولا اقتنى كتاباً، بل كان بكليتِهِ حراً من الآلام الجَسَدانية، راكباً فوق قوة الإيمان، صائراً بالرجاءِ مثل أسيرٍ للأمورِ المنتظرة، طائفاً في البراري كالتائه، عارياً تحت الأهوية، وكان يصبرُ على الضيقاتِ مسروراً، وكان إذا وجد مكاناً فيه أناسٌ، يجلس على الباب باكياً مثل إنسانٍ نجا من الغرقِ، فيخرج أحدُهم ويسأله قائلاً: «لماذا تبكي أيها الإنسان»؟ فيجيبه قائلاً: «إن لصوصاً وقعوا بي وأخذوا جميعَ غنى بيتي، ومن الموتِ أفلتُّ بعد أن سقطتُّ عن شرفِ نسبي». فإذا سَمع ذاك منه هذا الكلام المحزن، يدخل ويأتيه بقليلٍ من الخبزِ قائلاً له: «خذ هذا يا أبتاه، واللهُ قادرٌ أن يردَّ لك حاجتك». فيقول: «آمين»، ولا يأخذ شيئاً، بل كان يبكي ويقول: «اطلب أنت يا أخي، كي يردَّ لي الله شيئاً منها». مضى إلى الأب بنيامين بعضُ الإخوةِ بالإسقيط، وأرادوا أن يصبُّوا له قليلاً من الزيتِ، فقال لهم: «هوذا الإناءُ الصغير الذي جئتم به منذ ثلاث سنين، موضوعٌ بحالِه كما تركتموه». فلما سمعوا عجبوا من جهادِ الشيخ وقالوا: «يا أبانا، هو ذا زيتٌ طيب، أما ذاك فإنه زيتٌ نَغل (أي زيتٌ مخلوط)». فلما سمع ذلك، رشم نفسَه بالصليب وقال: «إني ما علمتُ قط أن في الدنيا زيتاً غير هذا». أذاعوا في بريةِ مصرَ، أن الصيامَ الكبيرَ قد بدأ، فمرَّ أخٌ بشيخٍ كبيرٍ وقاله له: «لقد بدأ الصومُ يا أبي». فقال الشيخُ: «أيَّ صيام يا ابني»؟ فقال له الأخُ: «الصيام الكبير». فأجاب الشيخُ وقال له: «حقاً أقولُ لك، إن لي هنا ثلاثاً وخمسين سنةً، لا أدري متى يبدأ الصومُ الذي تقول لي عنه ولا متى ينتهي، ولكن سيرةَ أيامي كلهَا واحدةٌ». |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق