الأنبا مقاريوس الكبير
|
الأنبا مقاريوس الكبير |
قال القديس مقاريوس الكبير: «إذا أقدمتَ على الصلاةِ فاحرص أن تكون ثابتاً لئلا تسلِّم إناءَك بيدِ أعدائك. لأنهم يشتهون اختطاف آنيتك التي هي أشواقُ نفسِك، وهي الأشواق الصالحة التي يجب أن تخدم بها الله نهاراً وليلاً. لأن الله لا يطلب أن تمجِّدَه بشفتيك فقط بينما تطيش أفكارُك بأباطيل العالم، لكنه يريد ألا توقف نفسَك أمامه وأفكارك تنظر إليه بدون التفات».
وقال أيضاً: «إن طولَ الروح هو صبر، والصبر هو الغلبة، والغلبة هي الحياة، والحياة هي الملكوت، والملكوت هو الله سبحانه وتعالى. البئرُ عميقةٌ ولكن ماءها طيبٌ عذب. الباب ضيقٌ والطريقُ كربةٌ ولكن المدينةَ مملوءةٌ فرحاً وسروراً. البرجُ شامخٌ حصينٌ، ولكن داخله كنوزاً جليلة. الصومُ ثقيل صعب لكنه يوصل إلى ملكوت السماوات. فِعلُ الصلاحِ عسيرٌ شاق، ولكنه ينجي من النار برحمة ربِنا الذي له المجد».
وقال أيضاً: «ضع همَّك كلَّه في أن تطلب الله وأن تنجو من أيدي أعدائك. فالآن يا رجل الله إن وضعتَ في قلبك أن تقتني الوحدةَ فهيئ ذاتك لها، واصبر على المسكنةِ فإن الوحدةَ والمسكنةَ عظيمتان وليس شيءٌ من المواهب يساويهما في القدرِ والكرامة، لأنهما يقرِّبان إلى الله. كما لا تُحصى المواهب الموجودة داخلهما لأنهما يسودان جميعَ الفضائل. وهما في وسط جميع المواهب يتلألآن لأنهما مصدر أعمال القديسين، وجميعُ القديسين وجدوا الله فيهما وكُشفت لهم الأفكار فوهبهم الله قلوباً نقية وهم في المسكنةِ والوحدةِ جياعاً عطاشى. هؤلاء الذين لم يستحقهم العالم. تائهين في البراري والقفار والمغارات وشقوق الأرض. هؤلاء الذين لهم هذه الشهادة الجليلة، قد وجدوا الله في الوحدةِ وبالمسكنةِ والصبر، لأن مجدَ الوحدةِ غيرُ محدودٍ ورجاءَها وفرحَها هو اللهُ، وهي العزاءُ في الفقرِ والمسكنة. غذاؤها الصبر وخدمتها الكاملة هي الطهارة وفرحها هو الاتضاع. هي التي لا يُفسدها سوسٌ ولا يتدنس لها ثوبٌ لأنها ساكنةٌ في الطهارةِ».
سأل أخٌ الأب مقاريوس عن الوحدةِ، فأجاب الشيخُ وقال: «إن كنتَ تريد السكنى في الوحدةِ فاصبر لها ولا تؤدي عملك يوماً في الداخل ويوماً في الخارج، ولكن تصبر لها باتضاعٍ والله الصالح يؤازرك. لا توجِد سبباً للخروج عن الوحدةِ حتى ولو ليومٍ واحدٍ. بل اثبت في مسكنك لتذوق حلاوتها. ولا تبطئ خارجاً لئلا تجذبَ إليك المضادَ وتتجدد عليك أتعابُك وتُحرم من الصبر. لا تبطئ خارج قلايتك لئلا تجد أتعابك قدامك عند رجوعك، فتتعب جداً في حربك ويصعُب انتصارُك. يا رجل الله حتى متى تدوم لك هذه الأتعاب. اصبر للمسكنة، وعزاءُ الوحدةِ يأتيك من قِبل الله، لا تضيِّع يوماً واحداً لك ونعمةُ الوحدةِ وحلاوةُ المسكنةِ تصيران لك عزاءً ويعطيك الله سعادةً في مسكنِك».
وسأله أخٌ مرةً قائلاً: «ماذا أصنعُ يا أبي والأفكارُ توعز إليَّ بأن أمضي وأفتقد المرضى فإن هذه هي الوصية». أجابه الشيخُ قائلاً: «إن كلمة النبوة لا تسقط أبداً، فإنه يقول: جيدٌ للرجل أن يحملَ النيرَ منذ صباه ويجلس وحده صامتاً. أما قول ربنا يسوع المسيح: كنتُ مريضاً فزرتموني، فقد قاله لعامة الناس. وإني أقول لك يا أخي: إن الجلوسَ في القلاية أفضلُ من افتقاد المرضى، لأنه يأتي زمانٌ يُضحك فيه على سكان القلالي فتتم كلمة البار أنطونيوس إذ قال: يجيء زمانٌ يُجنُّ فيه جميعُ الناسِ. وإذا أبصروا واحداً لم يُجنّ يذيعون عنه بأنه مجنونٌ لأنه لا يشبههم. وإني أقول لك يا ولدي: إن موسى النبي العظيم لو لم يبتعد من مخالطةِ الناس ومحادثاتهم ويدخل في الضبابِ وحده، لما تسلَّم لوحي العهد المكتوبين بإصبع الله».
وقال أيضاً: «كمثلِ إنسانٍ إذا دخل إلى الحمامِ إن لم يخلع ثيابَه لا ينعم بالاستحمامِ، كذلك الإنسانُ الذي أقدم إلى الرهبنةِ ولم يتعرَّ أولاً من كلِّ اهتمامِ العالم وجميعِ شهواتهِ وملذَّاتهِ، فلن يستطيعَ أن يصيرَ راهباً ولن يبلغَ حدَّ الفضيلةِ. ولن يمكنه كذلك أن يقفَ قبالة جميع سهامِ العدو التي هي شهوات النفس».
وقال أيضاً: «كمثلِ الحديد الذي إذا طرحتَه في النار يصيرُ أبيضَ ويتنقَّى من الشوائبِ، كذلك النفس إذا ما حلَّ فيها الروحُ القدس المعزي وسكن فيها فإنها تصير نقيةً كالملح متلألئة ببياض الفضيلة، فتنسى الأرضيات وتشتاق إلى السماويات، وتوجد في كل وقتٍ سكرانةً بالإلهيات شغوفةً بالعلويات. وذلك من أجلِ نقاوتها وطهارتها حتى يظن الإنسانُ أنه قد انتقل من هذا العالمِ إلى الحياةِ الأبدية بربنا يسوع المسيح، ويرى الجزاءَ الكاملَ العادلَ العتيد أن يكون للأبرارِ والخطاةِ في الدهرِ الآتي الذي لن يزولَ الدائم إلى الأبد».
وقال أيضاً: «كما أن المطرَ إذا سقط على الأرضِ تنبتُُ وتُنتج الثمارَ، وفي ذلك راحةٌ وفرحٌ للناس، كذلك الدموع إذا ما وقعت على قلبٍ أثمرت ثماراً روحانية وراحةً للنفسِ والجسدِ معاً».
وقال أيضاً: «ليس شيءٌ يعلو على خوفِ الله. لأنه يسود على كل شيءٍ. فبخوفِ الله يحيدُ كلُّ إنسانٍ عن كلِّ الشرور. فلنقتنِ لنا هذا، ولنبتعدْ عن كلِّ ما لا يريدهُ الله. ولنصنعْ كلَّ ما يُرضيه ونحفظه. ولا نصنع شيئاً يغضبه. ولنعلم أيضاً أن كلَّ ما نعمله عريانٌ ومكشوفٌ لديه ولا تخفى عليه خافيةٌ».
وقال أيضاً: «إن النفسَ لها استطاعةٌ أن تنظرَ إلى الله في كلِّ حينٍ، فتوجِد لها دالةً عند سيدها، لأنها حينئذ يكون لها قدرةٌ على ذلك، لذلك فلنحرص بكلِّ قوتنا ألا نحيدَ عن خوفِ الله ولا نتعبد للأوجاعِ».
وقال أيضاً: «يجبُ على الراهبِ أن يكونَ في سكونٍ في كلِّ حين ولا يسمع لأفكارِه التي توعز إليه بكثرةِ الكلامِ الذي يُضعف النفسَ، بل ليمسك عن الكلام حتى ولو نظر أناساً يضحكون أو يتحدثون بكلامٍ لا منفعة له وذلك لجهلِهم. لأن الراهبَ الحقيقي يجب أن يتحفظ من لسانِه كما هو مكتوبٌ في المزمور: اللهم اجعل لفمي حافظاً وعلى شفتيَّ ستراً حصيناً. فالراهب الذي يسلك هكذا لا يعثر أبداً بلسانِه، ولكنه يصبح إلهاً على الأرضِ».
وقال أيضاً: «كما أن الماءَ إذا سُلِّط على النارِ يُطفئها ويغسل كلَّ ما أكلته، كذلك أيضاً التوبةُ التي وهبها لنا الربُّ يسوع تغسلُ جميعَ الخطايا والأوجاع والشهوات التي للنفسِ والجسدِ معاً».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق