العذراء وأليصابات
بقلم: المتنيح الأنبا غريغوريوس
في الشهر السادس من حبل أليصابات* أرسل الله ملاكه جبرائيل إلي مدينة في منطقة الجليل تسمي الناصرة* تقوم علي جبل مرتفع في شمال فلسطين, ودخل إلي عذراء اسمها مريم, كانت مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف, وقال لها السلام لك أيتها الممتلئة نعمة. الرب معك.
في الشهر السادس من حبل أليصابات* أرسل الله ملاكه جبرائيل إلي مدينة في منطقة الجليل تسمي الناصرة* تقوم علي جبل مرتفع في شمال فلسطين, ودخل إلي عذراء اسمها مريم, كانت مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف, وقال لها السلام لك أيتها الممتلئة نعمة. الرب معك. مباركة أنت في النساء, والملاحظ أن الملاك ابتدر حديثه مع العذراء بأن أعطاها السلام, الأمر الذي لم يفعله مع زكريا الكاهن, أو مع أي إنسان آخر من قبل, مما يدل عل مكانة خاصة للسيدة العذراء مريم, وهذا السلام من فم الملاك يبرر أيضا ما تحيي به الكنيسة, والدة الإله, بقولها دائما السلام لك, نسألك أيتها القديسة الممتلئة مجدا, العذراء دائمة البتولية, والدة الإله أم المسيح. أصعدي صلواتنا إلي ابنك الحبيب ليغفر لنا خطايانا... ثم إن وصف الملاك لها بأنها الممتلئة نعمة إنما هو بيان لفضيلتها, وأنها كانت قبل حبلها بالسيد المسيح إناء طاهرا مستعدا لحمل النعمة,ولذلك ملأتها النعمة,فصارت هي مشحونة بالنعمة,ممتلئة بها.وهذا الامتلاء بالنعمة هو الذي جعلها أهلا لحلول الكلمة الأزلي في أحشائها... نعم إن ما نالته مريم من كرامة كان إنعاما, ولكن الإنعام لا يجيء إلا لمن يستحقه, كعلامة رضي وتكريم واعتراف بفضله وفضيلته. بيد أن السيدة العذراء إذ رأت الملاك اضطربت من قوله, وأخذت تفكر ما عسي أن يكون معني هذه التحية؟. لأنها فتاة صغيرة وفقيرة, فما الذي دعا ذلك الملاك النوراني الجليل الهيئة المهيب الطلعة لأن يجئ إليها في بيتها المتواضع, ويوجه إليها كل هذا التكريم والتعظيم, ويسبغ عليها كل هذه الأوصاف الوافرة التقدير والتقديس, الزاخرة بالنعمة والبركة؟ ولعلها أيضا- في براءتها وبساطتها- خافت من منظره الروحاني السماوي الذي لا يشبه في بهائه وضيائه أحدا من أبناء الأرض. كما خافت من ظهوره الفجائي كوميض البرق أمام عينيها. فقال الملاك لها لا تخافي يا مريم, لأنك قد نلت نعمة عند الله, وها أنت ذي ستحبلين وتلدين ابنا تسمينه يسوع, وسيكون عظيما وابن العلي يدعي, وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه, فيملك علي بيت يعقوب إلي الأبد, ولن يكون لملكه انقضاء. بيد أن العذراء الطاهرة العفيفة, علي الرغم من خطبتها ليوسف, كانت قد عشقت العفة الكاملة, وأرادت أن تحيا لله بتولا كل أيامها, ولم يكن زواجها الاسمي بيوسف إلا ضرورة اقتضاها وضعها كفتاة يتيمة الأبوين بلغت نحو الرابعة عشرة من عمرها, وكان لابد أن تخرج من الهيكل كما تقضي بذلك الشريعة, وكان لابد بالتالي من أن تكون في كنف رجل يحميها, ويتضح هذا العزم علي العفة الكاملة والبتولية التامة من قولها للملاك في دهشة مثيرة كيف يكون لي هذا, وأنا لا أعرف رجلا؟, والملاحظ أن عبارة العذراء مريم وهي تنفي عنها معرفة رجل معرفة الأزواج لم تكن بالنسبة للماضي فقط, وإنما تدل علي اعتزامها أن لا تعرف رجلا في الحاضر والمستقبل أيضا, وهذا أمر يدعو إلي العجب حقا, فإن رسالة الملاك جاءتها وهي في بيت يوسف, ولو لم تكن مصممة علي البتولية الدائمة لما كان ثمة معني لاعتراضها, لا سيما أن البشري هي في صيغة المستقبل, إذ قال لها الملاك ستحبلين. مما يدل دلالة قاطعة علي أن السيدة العذراء مريم التي عاشت منذ الثالثة من عمرها في جو الهيكل المعطر بالبخور والصلوات قد تعلقت بالطهارة, وقد ملكت العفة علي قلبها, فاعتزمت أن تعيش بتولا دائما. ولذلك فإن الملاك لم يغضب لاعتراضها كما غضب لاعتراض زكريا, بل أبان لها في وقار أن هذا الحمل سوف لا يتعارض مع احتفاظها ببتوليتها, لأنه سيكون حملا, لا بزرع بشر, بل بحلول روح القدس عليها فأجاب الملاك وقال لها: إن روح القدس سيحل عليك وقوة العلي تظلك, ولذلك فإن القدوس الذي سيولد منك يدعي ابن الله. فلما اقتنعت بأن هذا الحمل سوف لا يحرمها من احتفاظها بعفتها وبتوليتها أجابت الملاك قائلة ها أناذا أمة الرب, فليكن لي بحسب قولك. علي أنها وإن كانت عذراء نقية وتقية تداوم الصلاة وتتلو التوراة ونبوءات الأنبياء لم يخطر ببالها, وفي وداعتها وتواضعها, أنها هي العذراء التي تنبأ إشعياء النبي أن المسيح ابن الله مخلص العالم سيتجسد في أحشائها, وأنها علي الرغم من أنها عذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل أي الله معنا (إشعياء 7:14), ولكي يعطيها الملاك مثلا علي أن الله قادر أن يفعل هذا وإن بدا في عينيها عجبا, قال لها وها هي ذي أليصابات التي هي من بنات جنسك, قد حبلت هي أيضا بابن في شيخوختها, وهذا هو شهرها السادس, تلك التي كان يقال لها عاقر, لأنه ليس ثمة مستحيل علي الله, وإذ قال لها الملاك ذلك أيقنت علي الفور أنها هي العذراء التي تحدث إشعياء عنها في نبوءته, ما دام روح القدس سيحل عليها وقوة العلي ستظللها ما دام القدوس الذي سيولد منها هو ابن الله, وعندئذ تقبلت نعمة الله في خضوع وخشوع وإيمان وامتنان, قائلة للملاك ها أناذا أمة الرب, فليكن لي بحسب قولك, وإذ رأي الملاك أنها استمعت إلي قوله واقتنعت به, انصرف من عندها بعد أن أدي الرسالة التي كلفه الله بها.
زيارة العذراء لأليصابات:
بيد أن السيدة العذراء- وهي الفتاة الصغيرة الوديعة المتواضعة- كان هذا الحدث الجليل أكبر وأخطر من أن تطوي عليه جوانحها, ولم تكن تستطيع أن تفضي به إلا إلي قريبتها أليصابات زوجة زكريا التي أنبأها الملاك بأنها هي الأخري- بقدرة الله الذي لا يستحيل عليه شئ- قد حبلت في شيخوختها. ففي تلك الأيام قامت مريم وذهبت مسرعة إلي مدينة علي الجبال من مدن يهوذا, كانت تبعد عن الناصرة عشرات الأميال, والمعروف أنها مدينة عين كارم. وهناك دخلت بيت زكريا وسلمت علي أليصابات التي كانت عندئذ حبلي بيوحنا المعمدان, وكانت في شهرها السادس. فما إن سمعت أليصابات سلام مريم حتي انتفض الجنين في بطنها, وامتلأت أليصابات من روح القدس, فعلمت في هذه اللحظة- بالروح القدس وقبل أن تتحدث إليها سيدتنا الطاهرة بأي شئ مما حدث لها- أن هذه هي العذراء التي اختارها الله ليولد منها المسيح ابن الله مخلص العالم, ومن ثم صاحت بصوت عظيم قائلة مباركة أنت في النساء, ومباركة هي ثمرة بطنك. من أين لي هذا الشرف أن تأتي أم ربي إلي, فإنه ما بلغ أذني صوت سلامك حتي انتفض الجنين متهللا في بطني. فطوبي لك يا من آمنت بأنه سيتم ما قيل لك من الرب وهنا نقف لنتأمل امرأة عجوزا وقورة تبلغ نحو التسعين من عمرها أو تزيد, وفي مكانة محترمة, إذ هي زوجة كاهن وهو زكريا, تستقبل فتاة صغيرة يتيمة فقيرة لم تبلغ بعد الرابعة عشرة من عمرها, تحييها بصوت عظيم قائلة مباركة أنت في النساء, ومباركة هي ثمرة بطنك ومما يجدر ذكره أنها باركتها قبل أن تبارك ثمرة بطنها, وهذا ينهض دليلا من الروح القدس علي أن لمريم كرامة في ذاتها, وأن كرامتها في فضيلتها أسبق من كرامتها كأم للمسيح, أي أن كرامتها في فضيلتها هي التي رشحتها لأن تصير أما للمسيح. فهي ليست كأي عذراء أخري, وإنما هي العذراء الطاهرة المشحونة بالفضائل والتي اختارها الرب دون جميع العذاري لتكون له أما, لأنه رأي فيها حسنها الروحاني, وجمالها الباطني ولذلك أيضا طوبتها أليصابات وغبطتها, وكشفت بالروح القدس عمق إيمانها, إذ قالت فطوبي لك يا من آمنت بأنه سيتم ما قيل لك من الرب فكانت أليصابات أول من طوبها بالروح القدس, بعد الملاك جبرائيل الذي حياها بتحية لم تعرفها امرأة من قبل, ووصفها بأنها المكمتلئة نعمة, وقال لها مباركة أنت في النساء (لوقا 1:28). ثم إن في قول أليصابات من أين لي هذا الشرف أن تأتي أم ربي إلي ما يبرر تلقيب السيدة العذراء مريم بوالدة الإله, حيث إن الذي كان في أحشائها من سجد له يوحنا المعمدان وهو في بطن أمه جنينا وانتفض متهللا. إن اعتراف أليصابات بأن مريم هي أم الرب إنما هو صوت الروح القدس الذي نطق علي فم أليصابات, وقد كان لا يزال هذا هو اعتراف المسيحيين منذ أول عصور الكنيسة. ولقد أسقطت الكنيسة نسطور من درجته الكهنوتيه لأنه أنكر هذا اللقب علي السيدة العذراء مريم, وصارت الكنيسة تترنم دائما بمقدمة قانون الإيمان التي تقول نعظمك يا أم النور الحقيقي, ونمجدك أيتها العذراء القديسة والدة الإله, مريم... لأنك ولدت لنا مخلص العالم, ومن ثم فإن الذي ينكر علي السيدة العذراء مريم تلقيبها بوالدة الإله, إنما ينكر علي سيدنا يسوع المسيح أنه ابن الله, وأنه الله الظاهر في الجسد.
ولقد كانت تحية أليصابات هي أول إشارة تؤيد لدي العذراء العفيفة ما سبق أن قاله لها الملاك, ومن ثم أخذت تسبح الرب مترنمة بعظمته, شاكرة إياه علي أنه- علي الرغم من أنها صغيرة وفقيرة- وضعها في أشرف وأرفع مكان بين البشر, إذ هتفت قائلة تعظم نفسي الرب, وتبتهج روحي بالله مخلصي, لأنه عطف علي أمته في تواضعها فإنه هوذا منذ الآن كل الأجيال تطوبني, لأن القدير قد صنع بي عظائم. قدوس اسمه ورحمته دائمة إلي أجيال فأجيال للذين يتقونه. أتي أعمال قدرة بذراعه, وشتت المتعالين بأفكار قلوبهم. أنزل الأعزاء عن عروشهم ورفع الأذلاء. أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغي الأيدي, عاضد عبده إسرائيل ليذكر رحمته التي وعد بها آباءنا إبراهيم وذريته إلي الأبد, وهكذا أدركت سيدتنا العذراء كل الإدراك قيمة المركز الذي منحه الله إياها. كما أدركت كل الإدراك طبيعة الجنين الذي تحمله في أحشائها, إذ هتفت قائلة هوذا منذ الآن كل الأجيال تطوبني, وأيدت هذا الإدراك بقولها تبتهج روحي بالله مخلصي, ثم بقولها إن الله بتلك العظائم التي صنعها بها, قد أنجز وعده لإبراهيم وذريته بمجئ المسيح مخلص العالم من نسله, لأنها كانت من نسل إبراهيم وذريته, وقد مكثت سيدتنا العذراء عند أليصابات نحو ثلاثة أشهر. أي أنها لازمتها إلي حين ولادتها ابنها يوحنا, ثم رجعت إلي بيتها في الناصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق