[ثلاثة رهبان وشيطان واحد]
في البراري لا تكف الشياطين عن محاربة الرهبان.. فهم يعتبرون الراهب شخصاً قد تجرد لقتالهم، فيتجردون هم بالتالي لقتاله، يتفننون في سائل الإيقاع به، ومتى حدث يتهللون فرحاً بذلك النصر، وفي المقابل فهم كثيراً ما يذوقون مرارة الفشل وكئوس الهزيمة، وهم يتسببون في أكاليل كثيرة للرهبان بسبب حروبهم.
كانت الساعة قد تجاوزت السادسة مساءً بقليل، حين كان أحد الرهبان يمر بجوار مبنى القلالي القديم، فلاحظ شاباً يخرج من قلاية الأب ثيؤفان أو هكذا خُيّل له، فارتاب في الأمر، إذ لم يكن في العادة أن يصل العلمانيون إلى تلك المنطقة من الدير، ولم يكن الشاب يشبه عمال الدير والذين يقيمون بقضاء بعض الشؤن كالنظافة وغيرها.
وبعد تردّد اتجه إلى تلك القلاية ليقف على الأمر بنفسه، لعله يجد آثاراً لسرقة، لا سيما وأن قلاية رئيس الدير كانت قد تعرضت للسرقة من قبل مرتين، كما فقد أحد الشيوخ كتاباً ثميناً. فلما وصل إلى هناك كان ذلك الشاب قد اختفى، فطرق باب القلاية فلم يكن له من مجيب، وبعد تردّد دفع الباب إلى الداخل بهدوء، ثم نادى بصوت خفيض فلم يتلق رداً، فتشجع قليلاً ودلف إلى الداخل بحذر –وقد خشى أن يكون صاحبها قد ألمّ به مكروه- غير أنه وجد القلاية خالية، ولكن شكوكه وقلقه قد تلاشيا عندما وجد القلاية كما هي ليس بها أيه آثار للسرقة أو مجرد محاولة من هذا القبيل.
ولكنه عاد إلى الظن فلربما عدّل السارق عن خطته عندما شعر بأصوات قادمة جهته.. فترك الراهب القلاية ومشى جاداً تجاه الطرقة التي مرّ خلالها الشاب الذي رآه، ولكن الأخير كان قد اختفى تماماً، فمضى الأب من فوره ليبلغ رئيس الدير فلم يجده في قلايته. وعند هذا الحد توقف عن المتابعة منشغلاً بأمور أخرى، ثم ما لبث أن نسى الأمر كلية.
ولكن من هو صاحب القلاية هذا؟
إنه راهب يبلغ الثلاثين من العمر حضر للرهبنة من الوادي الجديد منذ خمس سنوات، طويل القامة بشوش الوجه، يجاهد كثيراً في أن يجعل حركته قليلة وخروجه من القلاية أقل، وكان العمل المسند إليه هو العناية بأب مريض تجاوز التسعين من عمره، وقد وهبه رئيس الدير قلاية بجواره حتى تسهل عليه خدمته، فإذا احتاج إليه استخدم جرس يد بجانبه (مثل ذاك الذي كان يحمله المنادون قديماً في الشوارع) فيحضر إليه الأب ثيؤفان على الفور يلبي له احتياجه.
كان له بمثابة الأم التي ترعى طفلها، فقد كان يعد له طعامه وثيابه وحمّامه، يطعمه بيده ويعطيه الدواء كل في حينه: المضادات والمسكنات حتى الحق تعلم كيف يحقنه بها، ينقله من مكان إلى آخر كلما اقتضى الأمر، وفي عصر كل يوم يحمله على كرسي ذي العجلات ويخرج ليسير به طويلاً قبل أن يعود به من جديد إلى قلايته، يستريح قليلاً فيقدم له كوباً من الشاي يتناوله منه برضى وصمت، ثم يقول له:
-هات الكتاب المقدس من خلفك وتعالّ إلى جواري لتقرأ لي.
-ماذا تريد أن تسمع؟
-دعنا نكمل ما فعله آخاب وإيزابل مع إيليا النبي.
-ولكن لماذا اضطهد آخاب وزوجته، نبي الله إيليا؟
-لم يكن آخاب شريراً في البداية ولكنه عرف الشرّ واعانته إيزابل في ذلك..
ويدور بينهما حوار طويل ثريّ حول ما يقرأه له، ويطعّم الأب الشيخ الجوار بالمزيد من القصص والأمثال الشعبية وبعضاً من أقوال الآباء. وفي الوقت الذي لا يقرأ فيه الكتاب المقدس فإنه يلذ له أن يسرد العديد من القصص والحكايات حول آباء الدير القدامى الذين عاصرهم، ويقول الراهب الشاب:
-لم تكمل لي قصة ذاك الذي اخفى في اسبوع الآلام.
-وما الذي ذكرّك بها الآن؟!
لا شيء.. فقط تذكرته.
-أين توقفنا؟
-عندما ألح على أب اعترافه أن يترك الدير ليعمل على إحدى السفن متخفياً.
سرح الأب بذهنه طويلاً بينما تعلقت عينا الراهب الشاب بشفتيه، فقال:
-كان قد مضى على رهبنته ستة عشر عاماً حين لاحت له هذه الفكرة، وأظن أنه حاول التشبه بالقديس سيرابيون الكبير الذي ترك الاسقيط وركب سفينه متجهة إلى روما، وقد أسرّ بهذه الفكرة إلى راهب صديق له، ومن بعد شهرين اختفى كلية من الدير تاركاً قلايته كما هي، وعرفنا بعد ذلك أنه سار في الصحراء باتجاه مدينة الإسكندرية حيث رآه أحد الأعراب وعرض عليه المساعدة فأبى شاكراً، ومنذ ذلك الوقت لم نسمع عنه شيئاً، غير أنه اتصل بعد مدة بقريب له في بنها ليطمئن أفراد اسرته عليه، قال أنه سعيد بحياته وأنه يكلمه من "تايلاند" على متن سفينة تحمل آلاف الأطنان من سمك السردين.
وبدا أن الراهب ثيؤفان لم يكترث كثيراً لما سمع، كما شعر الشيخ أن تلميذه قد استاء من القصة ومن مسلك ذلك الراهب، وإذ ذاك كف الشيخ عن المتابعة بينما همّ ثيؤفان بالانصراف بعد أن اطمأن إلى كل شيء، فأرخى ضوء المصباح الغازي الصغير، ثم استفسر الأب إن كان يحتاج إلى شيء فشكره، وفي طريقه وهو خارج القلاية حمل معه صندوق القمامة ليفرغ ما فيه بالخارج، فما أن وصل إلى قلايته هو حتى اكتشف أنه شارد الذهن، إذ ما يزال يحمل ذلك الصندوق دون أن يفرغه في الموضع القريب من قلاية الشيخ، فتركه عندئذ بغير اكتراث بجوار قلايته من الخارج.
وعندما دخل إلى قلايته صلّى ثم ما لبث أن غطّ في نوم عميق، ولكنه لم تمرّ ساعان فقط حتى تحرّك في رقدته وتململ فطار عنه النوم فلم يستطع، جرب اكثر من طريقة فلم تفلح أي منها، فقام صاغراً وأوقد السراج وحاول أن يشغل نفسه بأي شيء.
سحب كتاباً من فوق المنضدة الصغيرة التي إلى جوار مرقده، وحاول أن يقرأ فيه، ولكن السطور تحولت إلى خطوط عريضة باهتة، إذ كان ذهنه شارداً في لا شيء، فقام يعبث في بعض محتويات القلاية، أمسك قطعة من القماش وراح يمسح بها صورة معلقة، ثم راح ينظف المكتب البسيط الصغير، وفيما هو يفعل ذلك انتبه إلى الكرسي الذي إلى جواره.. أغراه الجلوس فجلس فيه متهاوياً مكدود الحيل منهك القوى.
وشرد بذهنه في غير أمر.. ثم وجد كلمات الشيخ تطفو على صفحة عقله، ثم تردد في جنباته، واختلطت المشاهد قدامه، ما بين مشهد البحر المتسع غير المتناهي، وسفينه تجارية ضخمة تمخر عباب الماء وتعبر البحار والمحيطات.. ثم تخيل شاباً رومانسياً –لعله هو- يجلس فوق سطح السفينة في ليلة مقمرة على أحد الكراسي المريحة ومن فوقه تنتشر النجوم المتلألئة في كبد السماء.. ثم رأى نفسه يردد بعض من مقاطع التسبحة، ويسأله البحارة إذ لم يفهموا ما يقول:
-انها التسبحة.
-ماذا تعني؟
ويشرح لهم فلا يفقهون ويتركونه مسبياً.. منصرفين عنه فيواصل هو، يصلي ويتأمل، بينما محركات السفينة تصدر هديرها في سكون الليل البهيم.
... لو حدث ذلك فإنه يتعقد الآن أن إنساناً ما لن يعرف عنه شيئاً بقية حياته (هكذا حدث نفسه) وليمت كيفما يموت، وليلقيه البحارة في الماء إن شاءوا وليصبح جسده هذا طعاماً لأسمال القرش.. كل ذلك لا يهم، فما الفائدة من جسد مُسجّى في مقبرة الدير أو العائلة، يذرفون عليه الدمع السخين، بينما روحه مقيده في الجحيم مع الأشرار، وهلاك أبدي يتربّص به!
ولكنه ما لبث أن طرد عنه تلك الأفكار، فقد كان يخشى المغامرة بطبعه، ويكفيه مغامرة أن ترك عمله كمهندس بوزارة الري وترك سيارته الحديثة كذلك والشقة التي أهداها له والده قبل وفاته.. أفما عليه أن يكتفي بالحياة كراهب أسوةّ بأخوته الرهبان، يعمل مثلهم ويصلي كما يصلون ويأوى ليلاً إلى قلايته مثل طفل في حضن أمه، ولا داعى لمثل هذه الطفرات؟!
ثم قام يجرّ رجليه جراً باتجاه مرقده، ورشم ذاته بعلامة الصليب، فما لبث أن غطّ في نوم عميق.
في اليوم التالي وبينما كان يعدّ للأب الشيخ طعامه، لاحظ الأخير الإرهاق الشديد على تلميذه، فقد بدا بطيء الحركة بينما اسودّ ما حول عينيه، ولما استخبره الأب عن السبب روى له –بكل عفوية- جميع ما حدث له وكيف أنه صار مسبباً بهذا الفكر، ويقول الأب لتلميذه:
-في الأمر مغامرة قد لا تُحمد عقابها، وأنت ما تزال غضاً صغيراً.
-فكيف خرج الآباء قديماً إلى السياحة؟
-الأمر مختلف، إذ كانوا يتمرسون اولاً في الفضيلة تحت ارشاد روحي من قبل آباء مختبرين وتدريب كثير.
-ولكني أود ألاّ يعرفني أحد، فأقضي حياتي غريباً؟
-يمكنك أن ذلك ههنا بهدوء، ودون طفرة حطر مثل هذه.
-وما المانع؟
-قد يكون الأمر بجملته حيلة دنيئة من الشيطان، يستدرجك خارج الدير، وعند ذلك تتلاشى مقاومتك ويتهاوى حصنك، ومن ثم يسهل عليه اصطيادك.
-ولكن الله سوف يرعاني..
ثم شرد بذهنه طويلاً.. لقد كان شقيقه يقول عنه أنه هوائي.. كثير الجنوح متقلب المزاج لا يعرف الاستقرار، ولا يلبث في مكان واحد طويلاً.. كست وجهه سحابه من الأسى.. وقبض بيميناه على لحيته بينما تعلّقت عيناه بسقف القلاية، ومرت فترة قطعها الأب بقوله..
-يجب ألاّ نرتئي فوق ما ينبغي وانما نرتئي إلى التعقل.. هكذا علمنا القديس بولس.
-ألا تذكر ما قاله مار اسحق للراهب الذي لا يسمحون له بالخروج إلى الوحدة: "أخرج والذي يعول دبيب الأرض يعولك".
-السياحة أو الوحدة أمران مختلفان عما يدور بخلدك الآن.. ثم تثاءب الشيخ مراراً وبدا أنه غير راغب في مواصلة الحديث في أمر كثيراً ما كان تلميذه يتطّرق إلى مثله، وقد اعتبر أن ما يفكر به تلميذه لا يعدو كونه فكرة سُبيّ بها، وسريعاً ما تتبخر من ذهنه عندما يطرأ عليه غيرها وهو ما سيقع سريعاً، إذ تعد حروب الرهبان حروب فكر في معظمها. ثم نظر إليه قائلاً:
-احضر لي قرصاً من العلبة الزرقاء.. وبينما الراهب يفعل ذلك، تحرك الشيخ في جلسته فاختلّ توازنه وسقط عن المقعد إلى الأرض، فأعاده إلى مكانه بعد عناء كبير وجهد جهيد.. ثم طلب الحلّ وانصرف..
قضى ثيؤفان سحابة ذلك اليوم ساهماً شارداً، فلما كان المساء وبينما يعد لنفسه كوباً من الشاي طرق بابه طارق، كان واحد من رهبان الدير في مثل سنه، أو هكذا بدا له من خلال الضوء الخافت، رحب به وأفسح له مكاناً ليجلس، وما لبث أن بادره الزائر بالقول:
-روى لي الأب ما دار بينك وبينه، وجئت إليك لأسرّي إليك بما يعتمل في قلبي، فإن لي الاشتياق ذاته، وبي رغبة محلة في أن أحذو حذوك، لقد راودني الفكر فيما لو كان ممكناً أن أخوض هذه الخبرة ورأى عمل الله معي، فهو لن يخذلنا ولن يتخلى عنا، لا سيما ونحن نخرج نطلب وجهه.
-هذا حق، ولكن أفما نستأذن رئيس الدير؟
-انه لن يوافق، بل سيُبدي العديد من التحفظات بل قل الاعتراضات.
فأجابه مؤمّناً على كلامه:
-نعم وقد كان آباؤنا يحيون في الجبال والصحاري وعلى أطراف النجوع، وقد اهتم الله بهم، وصنع بهم العجائب وحفظهم من كل سوء.
ومن ثم اتفقنا سوياً على وضع هذه الرغبة محلّ التنفيذ، وفي ذات الليلة قال الراهب الآخر أنه سيذهب إلى قلايته ليعد نفسه على أن يلحق به الأب ثيؤفان هناك..
وقال يحدث نفسه: من حسن الحظ انني ما زلت احتفظ بملابسي التي حضرت بها من العالم، بل حتى الحذاء الذي كنت أرتديه مازال قابعاً في الكيس منذ دخلت إلى هذه القلاية.. ثم بدا له أنه سيدخل في صراع نفسي عنيف، ولكنه نفض عنه سريعاً أيه خواطر قد تثنيه عن وضع خطته موضع التنفيذ، فقد كان مسب ياً بالفكرة..
وبينما كان الراهب الذي زاره يجذب الباب خلفه وهو خارج، كان هو قد راح يعمل بجد ونشاط لم يعهده في نفسه من قبل، فقد خلع (أو نزع) ملابسه وكأنه شخص يضيق بشيء، ثم ارتدى ثيابه العلمانية ودسّ رجليه في ذلك الحذاء، وثم ما هي إلا برهة حتى أدرك أنه كان من الممكن أن يخرج كما هو من الدير، ليتخلص بعد ذلك من ثيابه الرهبانية، ولكنه عاد ليطمئن نفسه بأن شكله الذي آل إليه سوف يسهل له الخروج من الدير على نحو أفضل.
كان الليل قد أرخى سدوله وكسا الدير بحلته المعيبة بما فيه من قلالي وأشجار وطرقات، بينما راحت الرياح الهادئة تداعب النخيل والأشجار في الحديقة فتصدر ذلك الحفيف والصفير الهادئ المتقطع الذي يبعث على الراحة والسكينة، وبين آن وآخر تموء قطة هنا أو هناك.
ونظر حوله في القلاية، ماذا يمكن أن يحمله معه –هل الكتاب المقدس أم الأوراق التي دون فيها بعض مذكراته وتأملاته، أم هذا المنبّه الصغير؟ ولكنه اكتفى بالساعة البسيطة التي تطوق معصمه، ولم يواصل الاسترسال في التفكير في مثل تلك الأمور، بل مسح القلاية بنظرة سريعة وهمّ بفتح الباب ولكنه تسمّر عند الباب فقد تذكر أنه يحتاج إلى النظارة المكبرة التي يمتلكها، ولكنه أعرض أيضاً عنها، وفتح الباب وخرج ثم جذبه خلفه بهدوء وانطلق نحو قلاية الراهب الذي ينتظره هناك.
طرق الباب بهدوء فلم يكن له من مجيب، فانتظر ريثما ينتهي الآخر من اعداد نفسه كما فعل هو، ولكنه تعجب في نفسه إذ ماذا عساه أن يحتاج رفيقه من القلايةّ أفما يليق به أن يحذو حذوه كما هو.. ولكن لماذا يظلمه فلربما كان هناك في القلاية ما يخشى أن يتركه، إن من الرهبان من يتمسك ببعض المقتنيات، ومنهم من لا يعبأ بشيء فقد كان يعيش في ذلك الدير راهباً يقضي حياته كلها على سور قناة المياه، ويأوي إلى قلايته عند الليل فقط لينام وكأنه غريب عنها وكأنها ليست بقلايته، ولا يعرف كيف بطبخ أو ماذا يعد كطعام، كان طعامه بعض الخبز والخضروات.. لا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد إلا نادراً، فلما تنيّح لم يجدوا في قلايته شيء يستحق أن يُعطى لآخر أو ينقل إلى مخزن الدير.
وتأخر الراهب في الداخل، فراح هو يطرق الباب طرقات متوالية وهو ينادي عليه من الخارج، فلما لم يجبه عاد ليجلس على عتبة القلاية ينتظره، وراح يفكر في السفينة والماء والبحر، ثم تذكر أمه المريضة وكيف ستفاجأ بعدم وجوده متى حضرت إلى الدير في زيارتها المتوقعة في الشهر القادم، وقرر أن يكتب لها رسالة يشرح فيها وجهة نظره، ولكنه عاد فعدّل عن الفكرة مستعيضاً عنها بمكالمة تليفونية لشقيقة الأصغر "كمال" يشرح له فيها الأمر.. ثم انتبه على حركة آتية عن قرب..
فعن بُعد لاح لأحد الرهبان أن شاباً يجلس قدام قلاية أحد الرهبان، فمضى من نوه إليه مستفسراً عن سرّ وجوده في ذلك الوقت أمام القلاية، واضطرب "ثيؤفان" بماذا يجيب إذا سُئل عن سبب وجوده... وبالفعل كان الراهب قد وصل ليسأله في لجهة جادة هادئة:
-هل تنتظر أحداً هنا؟
-نعم أنتظر الأب "..."
-ماذا تريج منه؟ هل يعلم هو أنك تطلبه؟
-نعم.. كان معي منذ قليل وأنا في انتظاره
فتعجب الراهب أيما عجب، إذ أن الراهب الذي يتكلم عنه ذلك "الشاب" متغّيب عن الدير منذ أيام، وارتاب في أمره فأردف متسائلاً:
-الأب "..." غير متواجد بالدير فكيف كان معك منذ قليل؟ ولماذا تكذب؟
-بل كان معي –انا لا أكذب- لقد قال. وهنا ماتت الكلمات على شفتيه. فقد صدم بعنف بما سمع، وانتابته رجفة شديدة وشعر الأرض تميد تحت قدميه، فتصبّب منه العرق. لقد أدرك في تلك اللحظة أن ما يحدث لا يعدو كونه خدعة شيطانية، الآن بما لا يدعو مجالاً للشك يكتشف أن الراهب الذي زاره في قلايته واتفق معه في ترك الدير ومشاركته مشروعه، لم يكن سوى شيطان غرّر بع!! وليس كما قال له من أنه زار الشيخ وأطلعه هذا على سرّ ثيؤفان (وكان قد تعجب وقتها كيف يبوح الشيخ بسرّه!) ولكن ماذا عساه أن يفعل الآن؟ هل يخرج وحده.. ترى هل هذه هي بداية الآلام؟ فتتلاهى به الشياطين خارج أسوار الدير.. لقد فعلوا به هذا وهو ما يزال في الداخل وبين اخوته؟ فماذا عساهم أن يفعلوا به بعد ذلك؟.. إن المشروع في حد ذاته ليس خطيراً (هكذا طمأن نفسه) ولكنه خسر أول جولة له فهل يتراجع؟! ولكن كيف الآن وهو أمام الراهب الواقف قدامه (مجرد شاب علماني بل ومشكوك في أمره!).. ثم قررّ أن يتجه إلى قلايته ريثما يلتقط أنفاسه ويلملم أشلاء نفسه معيداً ترتيب أموره.. وعاد الراهب ليسأل:
-ولكن من أنت؟
(ولم يجرؤ بالطبع أن يصرّح بالحقيقة فقال):
-أنا زائر كنت في زيارة للدير وتأخر بي الوقت!!
-هيا إذن حتى لا تتأخر أكثر.. يمكنك الاتجاه الآن إلى بوابة الدير لعل احدى السيارات تحملك إلى المدينة..
وهنا وصل الراهب آخر إلى المكان وانتحى جانباً بالراهب وهمس في اذنه:
-هل تعرف الشاب؟
-كلا بالطبع.. فعل تعرفه أنت؟
-بالطبع لا ولكني رأيته آتياً من قدام قلاية "الأب ثيؤفان" بل لقد خُيّل لي (وليغفر لي الله) أنه قادم من داخلها ربما ليسرقها.. وبحثت عنه ولم أجده، ولكني تأكدت أن القلاية لم تتعرض للسرقة.. ولكن ماذا يفعل عنا أيضاً؟
-يقول أنه ينتظر الأب (...)
-ولكنه متغيب عن الدير منذ بضعة أيام؟!
...
وبدا "الشاب" في الانصراف وخلفه وعن بعد سار الراهبان يتبعانه، فلمّا وجداه يسير باتجاه قلاية "ثيؤفان" ناديا عليه منتهرينه بلطف، ثم أشار أحدهما بيده إلى الطريق الموصل إلى البوابة –ظناً منهم أنه ضل الطريق- قائلاً:
-مِنْ هنا..
وشعر "الشاب" بأنه يُدفع إلى خارج الدير دفعاً!!، فلم يكن من الممكن أن يُطلعهم على سرّه، ولم يكن ممكناً كذلك أن يعدل عن خطته بالرجوع إلى قلايته –أو هكذا رأى في تلك اللحظة- فانصاع عندئذ لأمرهما واتجه إلى البوابة وهما يتبعانه.
عند البوابة الخارجية انتحى جانباً منها مطرقاً برأسه إلى أسفل، وعند ذلك أشفق عليه الراهبان، فسأله (أكبرهما سناً إن كان لديه من المال ما يكفيه حتى يعود إلى بيته:
-ولكن أين تسكن؟
-في حي المنيرة بالجيزة (وكان هناك مسكنه بالفعل بعد أن ترك ذويه مسكنهم في الوادي الجديد) ونظر الراهب إلى رفيقه بتساؤل إن كان معه بعض المال، فأجابه الآخر نفياً بحركة من رأسه، فلم يكن من عادة كليهما حمل المال. وعند ذلك لاحظ البواب حيرتهما وكان فتى في السابعة عشر من عمره، فلدلف إلى داخل حجرته المتواضعة بجوار البوابة وعاد يحمل معه بعض المال دفعه إلى الراهب وهذا بدوره قدمه للشاب:
-قد تحتاج هذه النقود حتى تعود إلى دارك.
وطفرت الدموع من عينيه، ولكن الراهب أسرع يخفف عنه، ويبسّط له الأمر، ثم تركاه وعادا أدراجهما إلى قلايتهما، وفي اليوم التالي أدرك الراهبان جيداً مع بقية الآباء القصة كاملة، بعد أن جمعوا خيوطها بدءا من الشيخ المقعد والذي انتابته نوبة من البكاء، ونهاية بعامل البوابة الذي تكفل بنفقة سفره والذي تشكك في الأمر أيضاً.
وأرسل رئيس الدير في اليوم التالي أكثر من أب، حتى تقابل معه أحدهم بما يشبه المعجزة وأعادوه إلى الدير، حيث استقبلوه استقبالاً حافلاً وكان الشيخ الذي يخدمه هو اكثر من فرح بعودته.. وكلما تذكر ثيؤفان ذلك ابتسم وهو يقول:
-"كم من سفينة غرقت في لجة البحر ولم تصل إلى الميناء."
دير البرموس
فبراير 2002م
ــــــــــ
نقلتها نصاً من كتاب سلسلة قصص روحية قصيرة وهادفة - المجموعة الثانية - عين ماء
(وهو الجزء الثاني من سلسلة أجراء وأبناء)
(وهو الجزء الثاني من سلسلة أجراء وأبناء)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق