قائد عظيم.. ملك عظيم.. ملك حسب قلب الرب.. الملك داود..
تأَّوهَ قائلاً من يسقيني ماء من بئر بيت لحم؟ التي كانت محتلة من أعدائه، وثلاثة من رجاله الذين أحبوه، خاطروا بأنفسهم، وجلبوا لهُ الماء.. من ذلكَ البئر..
وهكذا هيَ الحال حتى يومنا هذا.. وهذه هيَ العادة المُتَّبعة.. الناس يُخاطرون بحياتهم من أجل القادة والحكام..
لكـــن.. منذُ حوالي ألفي سنة، ولمَّا جاءَ ملء الزمان، كما تقول الكلمة.. وفي مدينة بيت لحم نفسها، التي كانت تحتضن بئر المياه الذي رغب داود الشرب منه، في المدينة التي كادت تشهد موت ثلاثة رجال، قرَّروا التضحية بأنفسهم من أجل قائدهم، وُلِدَ لنا ملك.. وُلِدَ لنا مُخلِّص.. قرَّر التضحية بنفسه من أجل رجاله.. فَقَلَبَ التاريخ، قلب المفاهيم.. وعلَّمنا أي قادة ينبغي أن نكون.
وهوَ الذي قال لتلاميذه فيما بعد:
" أنتم تعلمون أنَّ الذين يُحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وأن عظماءهم يتسلَّطون عليهم، فلا يكون هكذا فيكم، بل من أرادَ أن يصير فيكم عظيمًا يكون لكم خادمًا، ومن أرادَ أن يصير فيكم أولاً يكون للجميع عبدًا، لأنَّ ٱبن الإنسان أيضًا، لم يأتِ ليُخدَمْ بل ليَخْدِم، وليبذل نفسهُ فدية عن كثيرين ".
(مرقس 10 : 42 – 45).
مفهوم العالم.. القادة يسودون ويتسلطون على رجالهم.
مفهوم الله.. القادة يخدمون رجالهم.
مفهوم العالم.. الرجال يبذلون أنفسهم من أجل القادة.
مفهوم الله.. القادة يبذلون أنفسهم من أجل رجالهم.
وأمام كل هذا.. أي قادة ينبغي أن نكون نحن؟
مدينة صُغرى بينَ المدن كانت تحتضن بئرًا، ومُحتلة من الأعداء.. طرقها محفوفة بالمخاطر.. وكانت تُلزِم الناس أن يأتوا إليها لكي يستقوا الماء..
لكنها ٱحتضنت نبعًا فياضًا، لم يعد يُلزم الناس أن يُخاطروا بأنفسهم لكي يستقوا ماء لا يروي، بل خاطر هوَ بنفسه.. بل بذلَ نفسه، ففاضت مياههُ التي تروي.. خلاصًا لكل الناس..
" أنتم تدعونني معلّمًا وسيّدًا وحسنًا تقولون، لأني أنا كذلك، فإن كنت وأنا السيد والمعلّم، قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض، لأني أعطيتكم مثالاً، حتى كما صنعت أنا بكم، تصنعون أنتم أيضًا " (يوحنا 13 : 13 – 15).
ليسَ التواضع وخدمة الآخرين ومحبتهم والاستعداد لبذل النفس عنهم، تخلِّي عن السلطان والموقع الذي وضعنا الله فيه، ولا ينبغي أن يكون نابعًا من صغر للنفس أو عدم شعور بالأمان أو خوف من الناس، فالرب يسوع قال لتلاميذه: أنتم تدعوني معلمًا وسيدًا وأنا كذلك.. ومن هذا الموقع، غسلَ أرجلهم، وليسَ من موقع الشعور بصغر النفس وما شابههُ، وطلب منا أن نصنع ما صنعهُ هوَ.. وهوَ لم يحسب أبدًا أنَّ مساواته لله خلسة أو غنيمة يتمسك بها، لكنه أخلى نفسه بملء إرادته، ولم يكـن مُكرهًا علـى فعـل ذلك، فأخذَ صـورة عبـد صائـرًا في شبه النـاس.. لأنَّه ثبَّت عينيه علـى الصليب.. على خلاص البشرية.. فهانت كل التضحيات (فيلبي 2 : 6 – 7).
وهكذا ينبغي أن نكون.
ولا تقل أنَّ هذا الكلام مُوجَّه للقادة.. لراعي الكنيسة والشيوخ فقط.. بل هوَ موجَّه لكَ أنتَ بالتحديد.. لأنَّ كل واحد منَّا قائد في دائرة معينة.. في بيتك.. في عملك.. في خدمتك وفي كنيستك، حتى ولو كنتَ مسؤولاً عن شخص واحد فقط !!!
لنُلغِ من أذهاننا في هذا الصباح، كل مفهوم مُغاير عن السلطان والقيادة، ولنتمسك بالمفهوم الذي وضعهُ الرب أمامنا، وقال أنه صنع لنا مثالاً، ونصنع كما فعلَ هوَ.
لقد رفض كل محاولات إبليس والناس لتنصيبه ملكًا بالمفهوم البشري.. وتمسَّكَ بأن يكون الملك الذي يخدم الناس ويبذل نفسه من أجلهم..
هذه هيَ نصف الصورة التي ينبغي أن تكون لدينا عن القائد.. والآن إلى النصف الثاني..
قد يتحلَّى الكثير منَّا بالصفات والدوافع التي ذكرناها، والتي ينبغي أن تتوافر فينا كقادة، وقد يعمل البعض منَّا على ٱمتلاك هذه الصفات بعد هذا التأمل وبعد عمل الروح القدس في حياته، لكن قد يذهب أغلبنا إلى التطرف في تواضعه، بحيث أنهُ يتواضع أمام العدو الذي يقف في المرصاد، لكي يُحارب القادة ويمنعهم من القيام بدورهم، لجهة خدمة الناس ورعاية القطيع المسؤولين عنهُ، والدفاع عنهُ وحمايته، وهذا ما سنفضحهُ الآن، لكي تكتمل لدينا الصورة، ونتعلَّم أي قادة ينبغي أن نكون.
بكل تأكيد ينبغي أن نتواضع تحت يد الرب، نعترف بضعفاتنا أمامه، نمتلك القلب المُحب للناس، والدوافع النقية، ونُدرك أنهُ ليس فينا قوة، وليسَ لدينا سلطان من ذواتنا، بل بهِ وحده نوجد ونحيا ونتحرك، لكن في وجه العدو، ينبغي أن نُزمجر كأسود، كأسد يهوذا تمامًا، وكما أَخَذْنا الرب مثالاً لنا في إخلاء نفسه وتواضعه وقلبه الممتلىء شفقة ورحمة على الناس، ينبغي أن نأخذهُ مثالاً لنا في الطريقة التي واجهَ فيها إبليس وخطف النفوس منهُ.
لستُ أعلم بالتفصيل، لماذا لم يكن هناك إمكانية في العهد القديم لدى رجالات الله، في مواجهة إبليس وتقييده وحماية الناس منهُ، وتحريرهم من الأرواح الشريرة، فكان دائمًا يُسمَّى بالقوي.. لكن لعلَّ كلام الرب يوضح لنا الصورة الآن أكثر:
" حينما يحفظ القوي داره متسلحًا، تكون أمواله في أمان، ولكن متى جاء من هوَ أقوى منهُ، فإنه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي ٱتكلَ عليه، ويُوزِّع غنائمه، من ليسَ معي فهو عليَّ، ومن لا يجمع معي فهو يُفرِّق " (لوقا 11 : 21 – 23).
كانَ إبليس قويًّا.. ليسَ على الرب بكل تأكيد.. لكنهُ كانَ قويًّا علينا.. والسبب أنهُ كانَ لهُ ممسك ضدنا.. صك الخطايا، صك التعدي على قوانين الله الذي ورثناه من آدم، والذي أعطى السلطان لهذا العدو.. والرب الذي يحترم القوانين الروحية التي وضعها بنفسه.. لم ينتزع هذا الصك إلاَّ عندما مات على الصليب وقدمَّ دمه الثمين عوضًا عن كل واحد منَّا، دافعًا أجرة خطايانا وتعدينا على قوانينه.. فمحا الصك الذي كانَ ضدنا.. وسمَّره في الصليب.. وجرَّد هذا القوي وكل أجناده من قوتهم..
" إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضدًا لنا، وقد رفعه من الوسط، مُسمِّرًا إياه بالصليب، إذ جرَّدَ الرياسات والسلاطين، أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه (أي الصليب) " (كولوسي 2 : 14 – 15).
جاء الأقوى.. جاءَ الرب يسوع.. ولم يعد ذلكَ القوي بإمكانه أن يحفظ دارهُ وغنائمه بأمان.. وبكلام أوضح، لم يعد إبليس يستطيع الاحتفاظ بالنفوس لكي يصطحبها معهُ إلى بحيرة الكبريت والنار.. إن.. عرفنا أي قادة ينبغي أن نكون.. لأنه:
" كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته، إن لم يربط القوي أولاً، وحينئذٍ ينهب بيته " (متى 12 : 29).
هل توضَّحت الصورة؟
القوي يحتاج إلى أقوى منهُ لكي يغلبه.. لم يكن ممكنًا أبدًا أن نكون أقوى منهُ لأنهُ كان يُمسك علينا صكًا يُديننا.. لكن الرب محا الصك، وجرَّدَ إبليس من قوته علينا، وأعطانا السلطان عليه وعلى مملكته لكي ندوسه ونُقيِّده، ويُصبح بإمكاننا دخول بيته ونهب النفوس من يديه، ونقلها إلى ملكوت الله.. وأوكلَ لنا هذه المهمة.. وصعدَ إلى السماء.. وجلس عن يمين الآب يشفع فينا.. وأرسل لنا الروح القدس الذي به أخرج الرب الشياطين (ولكن إن كنتُ أنا بروح الله أُخرج الشياطين، فقد أقبلَ عليكم ملكوت الله. متى 12 : 28)، لكي نقوم بالعمل نفسه، وهوَ يؤيدنا بالقوة والآيات والعجائب، وينتظر منا أن نُخرج الشياطين، نُحرِّر الأسرى، نشفي المرضى، نُخلِّص النفوس، نجمع القطيع الذي شتَّتهُ العدو... وقال لنا هذا الكلام الكبير والمُعبِّر والمخيف في الوقت نفسه: " من ليسَ معي فهو عليَّ، ومن لا يجمع معي فهو يُفرِّق ".
من لا يأخذ سلطانه وموقعه الذي وضعه الرب فيه، على محمل الجد، ومن لا يُقيِّد القوي ويُخرِج الشياطين ويجمع القطيع ويبذل نفسه من أجل ذلك.. فهوَ وبصريح العبارة.. لا يجلس على الحياد.. بل هوَ يُفرِّق.. وهوَ ضد الرب.. إنها كلمة الرب، وليست ٱستنتاجاتي !!!
وأمام هذا الكلام، وأمام هذه الرسالة.. أي قادة ينبغي أن نكون؟
وأخيرًا.. شاهدت منذ يومين فيلمًا على شاشة التلفزيون مُعبِّر للغاية في سياق تأملنا هذا، وقد ألحَّ عليَّ الروح القدس أن أشارككم فيه، وهوَ ينقل قصة حقيقية، دارت وقائعها في العام 1993 في: " راوندا " أفريقيا، ولا يسعني إلاَّ وأن أُوجزه لكم، لنأخذ منهُ العبرة، ونضع ملخصًا لتأملنا هذا من خلاله.. معارك عنيفة دارت في هذا البلد بين قبيلتين، أرادت إحداهنَّ أن تُبيد الأخرى، والقصة تتمحور حولَ موقفين:
1 – شخص يُدعى " بول "، حاليًا يعيش في بلجيكا مع عائلته، كانَ مثالاً للقلب الطيب والمُحب والمُضحِّي، فقد ساعد الكثير من الناس، وضحَّى بالكثير من أجل إنقاذهم، حتى أنه لم يبخل بحياته، إذ تعرَّض من أجل الدفاع عنهم لعدة محاولات قتل، ورفض أن يُغادر البلاد، بالرغم من الفرص التي أُتيحت له، مفضلاً البقاء مع الناس لمساعدتهم، لكـــن.. لم يكن لديه القوة والسلطان لحماية هؤلاء الناس..
قلب طيب.. دوافع نقية.. إنما تنقصه القوة والسلطان لترجمة هذه المحبة وهذه الدوافع.
2 – مجتمع دولي، يمتلك القوة والسلطان لحماية الناس وإنهاء معاناتهم ومنع قتلهم، لكنهُ أرسل قوات لحفظ السلام، ولم يعطها الصلاحيات للدفاع عنهم وحمايتهم وإنقاذهم، فكانوا شهود زور، حتى أنَّ قائد هذه القوات التي كانت تتمركز في المنطقة الذي يتواجد فيها الرجل " بول " قالَ لهُ باكيًا: " يؤسفني أن أُبلغك، أنكم لستم سوى حثالة بالنسبة للمجتمع الدولي، لا تعنون لهم شيئًا، وهم سوف يرسلون قوات في اليومين المقبلين، لإجلاء الرعايا الأجانب فقط، أمَّا أنتم فقد قرروا التخلِّي عنكم ".
واحد يمتلك القلب المُحب والدوافع النقية والإستعداد لبذل نفسه عن الآخرين.. لكنهُ يفتقر للقوة والسلطان لترجمة ذلك..
وآخر يمتلك القوة والسلطان.. لكنهُ يفتقر إلى القلب المحب والدوافع النقية والإستعداد لبذل النفس عن الآخرين..
والنتيجة مليون ضحيَّة.. قُتلوا بطرق وحشية ومريعة !!!
وهذا ليسَ بعيدًا أبدًا عن معركتنا مع عدونا الحاقد إبليس، الذي يُشوِّه الناس ويعذبهم ويقتلهم، ولقد أصبح لديه أكثر بكثير من مليون ضحية، سيقودهم معهُ إلى مصير أبدي، مرعب ومخيف في بحيرة الكبريت والنار.. ويُخطط لكي يقود ملايين أُخرى.
والرب يقول: " من ليسَ معي فهو عليَّ، ومن لا يجمع معي فهو يُفرِّق ".
فهل.. وبعد كل ما قرأناه.. لا ننام ولا نهدأ ولا نكلّ ولا نوفِّر وسيلة، حتى نمتلك القلب الطيب والمُحب والإستعداد لبذل النفس من أجل الآخرين.. والقوة والسلطان معًا، لكي نُقيِّد القوي، ونخطف من قبضته الملايين من النفوس، التي قد تذهب معهُ إلى بحيرة الكبريت والنار؟
أم سنكون شهود زور؟ أو محبين للناس لكن لا نفعل شيء من أجلهم؟
لقد جرَّدَ الرب إبليس من كل قوته، وأعطاك السلطان لكي تدوس عليه، تقيدهُ وتنزع منهُ غنائمهُ وأسراه وتأتي بها إلى ملكوت الله، تجمعها.. تُطعمها.. ترعاها.. تُعزِّيها.. تشفيها.. تُحرِّرها..
فماذا ستفعل؟ وأي قادة ينبغي أن نكون؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق