الجمعة، 25 مايو 2012

زهور من بستان الرهبان 11....Flowers from the garden 11 monks




زهور من بستان الرهبان 11

 
قال الأب أموس: «ستةُ دروبٍ توجد للتوبةِ: ذمُ الخطايا والإقلاعُ عنها، الإقرارُ بها، الندامةُ عليها، الصفحُ عن خطايا القريبِ، تركُ دينونةِ المخطئين، وتمسكن القلبِ».
قال أحدُ الشيوخِ: «احرص بكلِّ جَهدِك لئلا تسقط، لأن الوقوعَ لا يليقُ بالمجاهدِ القوي، فإن عَرَضَ لك أن تقع، للوقتِ اطفُر واستمر أيضاً في الجهادِ، ولو عَرض لك ذلك ربواتٍ من المراتِ لتربحَ النعمةَ ربواتٍ من الدفعاتِ. وليكن ذلك، أعني النهوضَ والقيامَ، إلى حينِ موتِكَ، لأنه مكتوبٌ: إن سقط البارُ سبعَ مراتٍ، يعني طولَ الدهرِ السباعي، فإنه يقومُ سبعَ دفعاتٍ، إنك تُحسَب مع القائمين ما دمتَ ممسِكاً بسلاحِ التوبةِ بدموعٍ، فتذرَّع بهذه الوسيلةِ إلى الله لأنك وإن سقطتَ، فإنك تُمدَح بالأكثرِ ما دمتَ ملازماً الرهبانِ، مثلَ جندي شجاعٍ يقبلُ الضرباتَ مواجهة. حتى ولا في حالِ ضربهم، إياك أن تتراخى وتتباعد، ولكن إن انفصلتَ عن الرهبانِ فإنك تُضرب على ظهرِك كهاربٍ جبانٍ طارحٍ سلاحَه».
قال شيخٌ آخرُ: «إني رأيتُ قوةَ النعمةِ الإلهيةِ الحالة في عمادِ النورِ، هي كما هي، حالةً في وقتِ التسربل بالزي الإسكيمي، أما الذي يطرحُ عنه زي الرهبنةِ فلا حظَّ له مع المؤمنين، بل يُرتَّب مع جاحدي الإيمان، ويُعاقَب، متى لم يتب لله توبةً بالحقِ من كلِّ قلبهِ».
قيل عن أخ إنه وقع في تجربةٍ، ومن الشدةِ ترك إسكيمَ الرهبنةِ، لكنه رجِع وندِم، وأراد أن يبدأَ في تدبيرِه الأول، فساعده الربُّ ولم يتركه حتى خلص من مناصبةِ العدوِ.
في بعضِ الأوقاتِ، قامت سفينةٌ من ديولفن، ورمتها الرياحُ إلى بعضِ الجبالِ حيث كان هناك رهبانٌ، فخرجت امرأةٌ من السفينةِ، وجلست على الشاطئِ فوقَ تلٍّ من الرملِ، واتفق حينئذ أن جاء أحدُ الرهبانِ ليملأَ جرَّتَه، فأبصرَ المرأةَ، فرمى الجرةَ وعاد مبادِراً إلى رئيسِ الديرِ وقال: «يا أبتاه عند النهرِ امرأةٌ جالسةٌ». فلما سمع الشيخُ قولَه، خفق قلبُه، ثم أخذ عصاه وخرج بسرعةٍ وهو يصيحُ قائلاً: «أغيثوني، فقد جاءنا لصوصٌ أشرارٌ». فلما أبصروا انزعاجَ الشيخِ لَحِقوا به حاملين عِصيهم إلى النهرِ، فلما رأى النوتية قدومَهم عليهم هكذا، خطفوا المرأةَ من فوقَ التلِ بسرعةٍ، ووضعوها في السفينةِ، وقطعوا حبلَ السفينةِ وتركوها منحدرةً في جريانِ النهرِ.
قال أنبا إيليا السائح: إنه كان في مغارةٍ في أحد الجبال، فلم يأتِ نصفُ النهارِ في شدةِ الحرِ في شهرِ أغسطس، حتى قرع إنسانٌ على مغارتهِ، فخرج وأبصر امرأةً، فقال لها: «ماذا تصنعين ههنا»؟ قالت له: «أنا بقربِك في مغارةٍ على ميلٍ واحدٍ، أسيرُ سيرَتَك، وفيما كنتُ أدورُ في البريةِ عطِشتُ من شدةِ الحرِ، فاصنع محبةً يا أبي واسقني قليلَ ماءٍ». ثم قال: «فسقيتُها وأخليتُ سبيلَها، فلما انصرفَتْ تملَّكني قتالُ الزنى، فهُزمتُ له، وأخذتُ عصاي ومضيْتُ سائراً إلى مغارتِها في ساعةِ حرٍّ صعبٍ، فلما دنوتُ من مغارتِها والشهوةُ تُلهبُني، سَهوْتُ فأبصرتُ الأرضَ قد انفتحت وظهر من تحتِها أجسادُ موتى كثيرين مُنتِنةٌ جداً، وكان إنسانٌ بهيٌ يُريني تلك الأجسادَ ويقول لي: إلى أين أنت ذاهبٌ يا راهب، وماذا تريد؟ هلم الآن وانظر أجسادَ هذه النسوة التي كانت حسنةَ الصورة كيف صارت رائحتهم، فاشفِ الآن شهوتَك من أيهِا شئتَ، وأبصر كم من الأتعابِ تريدُ أن تُهلكَ من أجلِ هذه الشهوةِ المنتنةِ، وتحرم نفسَك مُلكَ السماءِ. ومن شدةِ رائحةِ النَتَن وقعتُ على الأرضِ، فأقامني ذلك الرجلُ، وأزال عني القتالَ، ورجعتُ إلى مغارتي أسبِّحُ الله وأمجدُه على خلاصي». فانظروا يا إخوتي كيف أن القربَ من النساءِ هو مُهلكٌ، ويسببُ القتالَ حتى للرجالِ الأبرارِ المتعَبين بالنسكِ طول أيامِهم.
أخبر أحدُ الشيوخِ: إنه في بعضِ الليالي، في أثناءِ صلاتِه وهو في البريةِ الجوانية، سمع صوتَ بوقٍ يضربُ ضرباً عالياً، كمثل ما تُضرب أبواقُ الحربِ، فتعجب متفكراً بأن البريةَ مقفرةٌ وليس فيها آدمي، فمن أين صوتُ البوقِ في هذه البريةِ، أَتُرى حربٌ ها هنا؟ وإذا بالشيطانِ قد وقف مقابلَه وقال بصوتٍ عالٍ: «نعم يا راهب، حربٌ هي، إن شئتَ فحارب، وإلا سلِّم لأعدائك».
سُئل شيخٌ: «كيف يقتني الراهبُ الفضيلةَ»؟ فأجاب: «إن شاء أحدٌ أن يقتني فضيلةً، إن لم يمقُت أولاً الرذيلةَ التي تضادها فلن يستطيعَ أن يقتنيها. فإن شئتَ أن يحصلَ لك النوحُ فامقت الضحكَ. وإن آثرتَ أن تقتني التواضعَ فابغض الكبرياءَ. وإن أحببتَ أن تضبطَ هواك فامقت الشرَّ والتحريفَ في الأشياءِ. وإن شئتَ أن تكونَ عفيفاً فامقت الفسقَ. وإن شئتَ أن تكونَ زاهداً في المقتنياتِ فامقت حبَ الفضةِ. ومن يريدُ أن يسكنَ في البريةِ فليمقت المدنَ. ومن يشتهي أن يكونَ له سكوتٌ، فليمقت الدالةَ. ومن أراد أن يكونَ غريباً من عاداتِهِ فليبغض التخليطَ. ومن يريد أن يضبطَ غضبَه فليبغض مشيئتَه. ومن يريد أن يضبطَ بطنَه فليبغض اللّذاتِ والمقامَ مع أهلِ العالمِ. ومن أراد عدمَ الحقدِ فليبغض المثالبَ. ومن لا يقدر أن يكابدَ الهمومَ فليسكن وحدَه منفرداً. ومن يريد أن يضبطَ لسانَه فليسد أذنيه لئلا يسمع كلاماً كثيراً. ومن يريد أن يحصل على خوفِ الله، فليمقت راحةَ الجسدِ ويحب الضيقةَ والحزنَ. فعلى هذه الصفةِ يمكنك أن تعبدَ الله بإخلاصٍ».
قال شيخٌ: «أشرفُ أعمالِ الرهبنةِ أن يُحقِّرَ الإنسانُ نفسَه دائماً، ويردَّ اللومَ عليها».
وقال أيضاً: «البابُ إلى اللهِ هو الاتضاع ومنه دخل آباؤنا إلى الملكوتِ بغنيمةٍ عظيمةٍ».
وقال أيضاً: «إن الذي يخاصمه أخوه ولا يَحزن قلبُه، فقد تشبَّه بالملائكةِ، فإن خاصمه هو أيضاً ثم رجع صالحه من ساعتِهِ فهذا هو عمل المجاهدين. فأما الذي يُحزن إخوته ويَحزن منهم ويُمسك الحقدَ في قلبهِ، فهذا مطيعٌ للشيطانِ مخالفٌ لله، ولا يغفر له الله ذنوبَه إذا لم يغفر هو لإخوتهِ».
وقال أيضاً: «كما أن الذي يُصفِّي الذهبَ، إذا كان يحمِّي النارَ ويشعلها حيناً ثم يخمدها ويطفئها حيناً آخر، لا ينتفع، كذلك الراهب إذا كان يحرص مرةً ويسترخي أخرى».
قال شيخٌ: «إن إبراهيم أول دخولهِ أرضَ الميعادِ اشترى قبراً، فوَرِثَ هو وزرعُه الأرضَ بكمالِها، هكذا الذي يتخذ له بيتاً لموتِهِ من هذا العالمِ، ويحزن فيه على نفسِه، فإنه يرث أرضَ الحياةِ».
قيل عن أحدِ الشيوخِ: إنه كان رجلاً وديعاً كثيرَ الحبِّ. ولم يفكر في الشرِّ أصلاً، وحدث مرةً أنَّ أحدَ الإخوةِ سَرَقَ زنابيلَ وحملها وأودعها عندَه ولم يعلم الشيخُ بسرِّها، فبعد أيامٍ عُرفت الزنابيل، فاتُّهم الشيخُ بسرقَتِها، فلما اتُّهم أنه السارق، سجد مطانية وقال: «اغفروا لي يا إخوتي من أجلِ الله فأتوب من هذه الدفعةِ الواحدةِ». وصار يبكي، فلما نظر الإخوةُ بكاءَه تركوه، وبعد أيامٍ قلائل جاء الأخُ الذي سرق الزنابيل، وأنشأ خصومةً مع الشيخِ قائلاً: «أنت سارقٌ، وقد سرقتَ زنابيل فلان». فسجد الشيخُ بين يديه قائلاً: «اغفر لي يا أخي كما غفر لي بقيةُ الإخوةِ». وكان هذا الشيخُ دائماً إذا غلط أخٌ وأنكر غلطَتَهُ، يسجد هو قائلاً: «اغفروا لي يا إخوتي هذه الغلطةَ». وكان كلامُه على الدوام بهدوءٍ واتضاع وسكينةٍ، ولم يخاصم أحداً قط، ولا سبَّب وجعَ قلبٍ لأحدٍ قط في وقتٍ من الأوقاتِ حتى ولو بكلمةٍ صغيرةٍ.
قيل عن شيخٍ آخر إنه في وقتٍ أتاه اللصوصُ وقالوا له: «جئنا لنأخذ جميعَ ما في قلايتِك»، فقال لهم: «خذوا ما شئتم أيها الأولاد». فلما أخذوا جميعَ ما وجدوه مضوْا ونسوا مخلاةً مستورةً بخوصٍ، فلما نظرها الشيخُ أخذها وخرج يخطر وراءهم وهو يصيح ويقول: «يا بَنيَّ، خذوا ما قد نسيتم». فلما رأوا ذلك منه عجبوا من دعتِهِ وسلامةِ قلبِهِ، وردوا كلَّ ما أخذوه إلى قلايتِهِ. وقال بعضُهم لبعضٍ: «بحقٍ إن هذا رجلُ الله»، وكان ذلك سبب توبتهم وتركهم ما كانوا عليه من اللصوصيةِ.
ذكروا عن أحدِ الإخوةِ أنه كان مجاوراً لشيخٍ من المشايخ له فضلٌ، فكان يدخل في قلايتِه كلَّ يومٍ ويسرق ما يجده فيها، وكان الشيخُ يفهم ذلك ولا يوبخه ولا يعاتبه، بل كان يكدُّ ويُزيدُ على وظيفتهِ في عملهِ، ويقول في نفسِه: «لعل الأخَ إنما يفعلُ هذا بسببِ الحاجةِ». وكان الشيخُ شديدَ التعبِ والكدِّ بسببِ ذلك لدرجةِ أنه ما كان يَفْضُل له ما يأكل به خبزاً. فلما حضرت الشيخَ الوفاةُ، أحاط به الإخوةُ، فنظر وإذا بذلك الأخِ الذي كان يسرق متاعَه بينهم، فقال له: «ادّنُ مني يا ابني». واندفع يقبل يديه ويقول: «يا إخوة، أنا أشكرُ هاتين اليدين اللتين بهما أدخلُ ملكوتَ السماءِ». فلما سمع الأخُ ذلك، رجع إلى نفسِه وندم على فعلِه، وكان ذلك سبباً في توبتهِ.
من قول البابا أثناسيوس الرسولي: قد يعرض أن يقولَ أحدٌ: «أين هو زمانُ الاضطهادِ حتى كنتُ أصيرُ شهيداً»؟ فأقول له أنا: «الآن يتجه لك أن تكونَ شهيداً إن أردتَ، متّ عن الخطيةِ، أَمِت أعضاءَك التي على الأرضِ، وبذلك تصيرُ شهيداً باختيارِك، فأولئك الشهداءُ كانوا يقاتلون ملوكاً ورؤساءً جسديين، أما أنت فإنك تقاتلُ ملكَ الخطيةِ، محتالاً عنيداً، والشياطين رؤساءَ الظلامِ. أولئك كانوا ينصبون للشهداءِ عقوباتٍ مختلفةً لأجلِ عبادةِ الأصنامِ، فتفطَّن الآن فإنه توجد مائدةٌ ومذبحٌ وصنمٌ مرذولٌ، وقد يكلفون العقلَ للسجودِ، فالمائدةُ هي نهمُ البطنِ، والمذبحُ هو التلذذ بما دَسِمَ من الأطعمةِ، والصنمُ هو شهوةُ الزنى المرذولة والمصوِّرة لتركيب الأجسام. وكذلك فإن من واظب على اللّذاتِ وتعبد للزنى فقد جحد يسوعَ وسجدَ للصنمِ، لأن له في ذاتهِ صنمَ الزهرةِ وهو لذة الأجسامِ القبيحة. ومَن كان مغلوباً من الغيظِ والغضبِ فقد أنكر يسوعَ وله في نفسِه المديحُ إلهاً، وهو يسجدُ للغيظِ الذي هو صنمُ الجنونِ، ومن انغلب لحبِ الفضةِ، وأغلق تحننَه عن الفقراءِ، فقد كفر بيسوعَ وعَبَدَ الأصنامَ لأن له في نفسِه صنمَ عطارد وقد عَبَدَ البَرِية دون باريها. فإن أنت ضبطتَ هواك من هذه الأمورِ، وتحفّظتَ منها فقد وطأت الأصنامَ وصرتَ شهيداً والربُ يسوعُ المسيحُ يساعدك».
قصد راهبان أحدَ الشيوخِ، وكان أحدُهما شيخاً والآخرُ شاباً، فشكا الأكبرُ من الأصغرِ، فتأمَّل الشيخُ إلى الشابِ وقال له: «أصحيحٌ ما قاله عنك»؟ فقال: «نعم يا أبانا لأني أحزنتُه»، ثم فكَّر الشابُّ في قلبهِ ونَدِمَ على ما قاله، وقال: «لستُ أنا بل هو الذي أحزنني، إلا أني جعلتُ اللائمةَ على نفسي بكلامي». وتوقف ولم يقدر أن يجيبَ بشيءٍ آخر. وأن الشيخَ صاح بصوتِه، فقالوا له: «لماذا صحتَ يا أبانا»؟ فأجاب: «بأنه عند دخولِ هذين الراهبين عندي رأيتُ زنجياً واقفاً قدامهما وبيده قوسٌ ونشَّابٌ، وكان ينشب نحوهما، وما كانت النشابةُ تصيب سوى ثيابهِما، فلما تذمر الشابُ، أرسل الزنجيُ النشَّابَ نحوه فكادت تقتله، من أجل ذلك كان صراخي هذا عليه كيلا يقتله». ثم أن الأخوين سألا من الشيخِ شفاءَ العارضِ، فقال لهما الشيخُ: «متى وقعت بينكما خصومةٌ فتذكرا الزنجي، فيكُفَّ تأثيرُ الخطيةِ عنكما». فعادا وفعلا ذلك وشُفيا.
سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «ما هو نجاحُ الراهبِ»؟ فقال: «التواضع، لأن بدونِه لا يكون نجاحٌ، وبمقدارِ نزولِه في التواضع يكون مقدارُ صعودِهِ إلى علوِ الفضيلةِ». فسأله أيضاً: «فكيف تقتني النفسُ الفضيلةَ»؟ فقال: «إذا هي اهتمت بزلاتِها وحدِها».
قال أنبا إيليا: «أيُّ مقدرةٍ للخطيةِ حيث تكونُ التوبةُ، وأيُّ منفعةٍ للمحبةِ حيث تكون الكبرياءُ»؟
كان أحدُ الرهبانِ صامتاً وقد شاع فضلُه وعملُه، فزاره في أحدِ الأيامِ اثنان من الفلاسفةِ، فقام وصلَّى وسلَّم عليهما وجلس صامتاً يُضَفِّر الخوصَ ولا يرفع نظرَه إليهما، فقالا له: «يا معلم، انفعنا ولو بكلمةٍ واحدةٍ لأننا لهذا أتينا إليك». فأجابهم الراهبُ قائلاً: «اعلما أنكما أفنيتما أموالَكما لتتعلما فخرَ الكلامِ وتحسينَه، وأما أنا فقد أهملتُ العالمَ وأتيتُ إلى ههنا لا لأقتني جَوْدَةَ الكلامِ بل السكوتَ». فلما سمعا قوله أُعجبا كثيراً وانصرفا منتفعيْن منه.
جلس راهبٌ من الرهبانِ في البريةِ صامتاً في قلايته، فضغط عليه الضجرُ وأقلقه الفكرُ وضيَّق عليه شديداً حاثاً إياه على الخروجِ منها. فقال في ذاتِه: «يا نفسي لا تضجري من الجلوسِ في القلايةِ، وإن كنتِ لا تعملين شيئاً، يكفيكِ هذا، أنكِ لا تُحزنينَ أحداً. ولا أحدٌ يُحزنك، فاعرفي كم من الشرورِ خلَّصكِ الله، لأن في سكوتِك وصلاتِك لله تكونين بلا همٍّ يشغلك ولا تتكلمين كلاماً باطلاً، ولا تسمعين ما لا ينفعك ولا تبصرين ما يضرك، وإنما قتالكِ واحدٌ، وهو قتالُ القلبِ، والله قادرٌ أن يبطلَه، وإذا اقتنيتِ الاتضاعَ عرفتِ ضعفك». فعند افتكار الأخ بهذا، صار له عزاءٌ كثيرٌ في صلاتِهِ.
في بعضِ الأوقات قوتل أنبا مقاريوس بالعظمةِ وهو في قلايتهِ. وحثه فكرهُ على الخروج منها، والذهاب إلى رومية لينفع كثيرين بحسب ما أملته عليه أفكارُ العظمةِ. فلما ألحت عليه الأفكارُ بذلك، ألقى بنفسِهِ داخل قلايتِهِ عند بابِها، وأخرج رجليه من البابِ، ثم قال لأفكارِ العظمةِ: «أخرجوني إن قدرتم، فإني لن أخرج طائعاً، فإن لم يمكنكم ذلك فلن أطيعَكم». ولم يزل ملقى وهو يقول هذا الكلام إلى الليلِ حيث اشتد عليه القتال والأفكار. وأخيراً أخذ قفةً وملأها رملاً وحملها، وأخذ يطوف بها البريةَ حتى لقيه القديس فسطوس، فقال له: «ماذا تحملُ يا أبتاه، أعطني إياه، ولا تتعب أنت». فقال له: «أريد أن أشقي من يشقيني، فإنه إذا ما نالته الراحةُ سبَّب لي الأسفارَ والشقاءَ». واستمر هكذا إلى أن كفت عنه الأفكارُ. فرجع إلى قلايتِهِ وهو يشكر اللهَ.
سُئل شيخٌ: «لماذا تقاتلنا الشياطين جداً»؟ فقال: «لأننا طرحنا سلاحَنا أعني الطاعةَ والاتضاعَ والمسكنةَ».
قال شيخٌ: «إذا لم يأتِ علينا قتالٌ، حينئذ ينبغي لنا أن نتضعَ جداً، عالمين أن الله لمعرفتِه بضعفِنا رفع عنا القتالَ، وإن افتخرنا يرفع عنا سِتْرَه فنهلك».
سُئل شيخُ: «ما هو كمالُ الراهبِ»؟ فقال: «الاتضاع، فإذا بلغ الإنسانُ إلى الاتضاع فقد أتى إلى الكمالِ».
قال أحدُ الشيوخِ: «إذا قال الراهبُ لصاحبهِ: اغفر لي، باتضاعٍ، تحترق الشياطين».
قال شيخٌ: «إن جاءك إحساسٌ بالعظمةِ وبدأتَ تفتخر، فانظر في نفسِك هل حفظتَ الوصايا، أن تحبَّ مبغضيك وتفرح بصلاحِ عدوك وتحزن لحزنه وتحسب نفسَك عبداً بطالاً، وأنك أخطأ كلِّ الناسِ، وأن لا تفتخر إذا قوَّمتَ كلَّ صلاحٍ؛ حيث أنه يجب أن تعلم أن هذا الإحساسَ يُهلك ويُبطل جميعَ الحسنات».
قال أنبا بيمين: «كما أن الأرضَ لا تسقط لأنها أسفل، هكذا من يضع نفسَه لا يسقط».
وسأله أخٌ: «كيف أستطيع ألا أقع في الناسِ»؟ فقال له: «إذا لام الإنسانُ نفسَه حينئذ يكون عنده أخوه أكرمَ منه وأفضلَ، وإذا ظن في نفسِه أنه صالحٌ، حينئذ يكون عنده أخوه حقيراً ومهاناً ويقع فيه».
قال شيخٌ: «احذر بكلِّ قوتك ألاَّ تقل شيئاً يستحقُ اللائمةَ، ولا تحب التصنع».
وقال أيضاً: «إن نزل الاتضاعُ إلى الجحيمِ فإنه يصعد حتى السماءِ، وإذا صعدت العظمةُ إلى السماءِ فإنها تنزل حتى الجحيمِ».
سأل أخٌ أنبا ألينس في معنى تحقيرِ الإنسانِ نفسه فقال له: «هو أن ترى كلَّ الخليقةِ حتى البهائم أخيرَ منك، وتعلم أنهم لا يدانوا».
قال شيخٌ: «أُحبُّ أن أكونَ مغلوباً باتضاع أفضلَ من أن أكونَ غالباً بافتخار».
وقال آخر: «لو لم يخضع يوسف للعبوديةِ أولاً، لما صار لمصرَ سيداً، وإن لم يُخضع الراهبُ نفسَه للعبوديةِ أولاً بكلِّ تذللٍ ومحقرةٍٍ، فلن يصيرَ سيداً على الأوجاعِ، ولن تخضعَ له الشياطينُ».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق