زهور من بستان الرهبان 3 |
سُئل القديس برصنوفيوس: «إن الآباء قالوا: ينبغي لنا أن ندخلَ إلى القلاية ونتذكر خطايانا، لكني أجد نفسي إني أتذكرها بدونِ وجعٍ، وأشتهي أن أتخشع فلا يأتيني الخشوع، فما السبب»؟
الجواب: «لستَ تسلك في سبيل الحق، لأنك تحتاجُ إلى تفتيش القلبِ وضبطِ الفكرِ عن كلِّ إنسان، فمن لم يقطع هواه، لا يوجعه قلبه، وقلةُ الإيمانِ لا تدع الإنسانَ أن يقطع هواه، وسبب ذلك هو محبةُ مجدِ الناسِ أكثرَ من مجدِ اللهِ، كما قال الربُّ. فإن أردتَ بالحقيقةِ أن تبكي على خطاياك، فمُت عن كلِّ الناسِ واقطع هواك واجتنب تزكيتك لنفسِك وإرضاءك للناس، ولا تتلذذ بطعامٍ ولا تشبع ولا تدن أحداً، وكن حسنَ الطاعةِ لتبلُغَ الاتضاع، والاتضاع يُميتُ الأوجاعَ».
سُئل أيضاً هكذا: «قُدسك قال لي هو ذا خطاياك قد غُفرت، وأنبا إشعياء قال: ما دام الإنسانُ يجدُ في قلبهِ لذةَ الخطيةِ، فلم يحظَ بعد بغفرانِها، وإني إلى الآن أحسُّ بلذتها، لذلك أظن أنها لم تُغفر بعد، فأحزن وفكري يحدثني قائلاً لي: إن الله خذلك لأن قتالَ الزنى قد ثقل عليَّ طول هذا الأسبوع»؟
الجواب: «لقد قلتُ لك إن خطاياك القديمة قد غُفرت، أتراني قلتُ لك إن قتالات العدو قد بَطُلت؟ فالراهبُ قائمٌ في صفِّ الجهاد ولو لم يكن لك خطايا. فالشيطان يجلبُ لك لذَّةَ الخطيةِ بالفكرِ، أمَّا ما قاله لك أنبا إشعياء فهو عن فاعليها المتلذِّذين بعملِها، لأن ذِكر حلاوة العسل شيء، وتذوُّق حلاوة العسل شيءٌ آخر. حتى إن الذي يتذكر لذَّة الخطية ولا يفعل ما يتعلق باللَّذةِ، بل يجاهد في سبيل إبعادها عنه فذلك هو الذي غُفرت له خطاياه القديمة. ومن خيالات الشيطان أنه يقول لغير المتمكنين: إن خطاياكم لم تُغفر، وذلك ليقطعَ رجاءَهم، فَتَحَفّظ من ذلك. أما عن قتال الزنى، فيحتاج الإنسانُ إزاءَه إلى جهادٍ واتضاعٍ، فبلا تعب واتضاع لن يخلُصَ أحدٌ. أما من جهةِ الخذلان فالله لا يخذلنا، فما لم نتخلَّ نحن عن محبتِه أو نحيد عنه، فهو لا يتخلى عنا، إذ أن مشيئته هي أن نلجأ إليه ونخلص».
وبصدد الابتعاد عن العالم قال البار إشعياء: إني في بعضِ الأوقات كنتُ جالساً بقرب القديس مقاريوس الكبير حين تقدم إليه رهبانٌ من الإسكندرية ليمتحنوه، قائلين: «قل لنا كيف نخلص»؟ فأخذتُ أنا دفتراً وجلستُ بمعزلٍ عنهم لأكتبَ ما يتحاورون به. أما الشيخُ فإنه تنهَّد وقال: «كلُّ واحدٍ منا يعرف كيف يخلص، ولكننا لا نريد الخلاصَ». فأجابوه: «كثيراً ما أردنا الخلاصَ، إلا أن الأفكارَ الخبيثةَ لا تفارقنا، فماذا نعملُ»؟ فأجابهم الشيخُ: «إن كنتم رهباناً، فلماذا تطوفون مثل العلمانيين، إن الذي قد هجر العالمَ ولبس الزي الرهباني، وهو وسط العالم، فهو لنفسِه يُخادع. فمن كانت هذه حالُهُ، فقد صار تعبُه باطلاً. لأنهم ماذا يربحون من العلمانيين سوى نياحِ الجسد، وحيث نياحُ الجسد لا يوجد خوفُ الله، لا سيما إن كان راهباً ممن يُدعَوْن متوحدين، لأنه ما دُعي متوحداً إلا لكي ينفرد ليلَه ونهارَه لمناجاةِ الله. فالراهبُ المتصرِّف بين العلمانيين هذه هي تصرفاته: قبل كلِّ شيءٍ تكون فاتحةُ أمرهِ أنه يضبطُ لسانَه ويصوم، ويذلِّل نفسَه إلى أن يُعرف ويخرج خبرُه، ويقال عنه الراهب الفلاني هو عبدُ اللهِ. وسرعان ما يسوق إبليس إليه من يُحضر له حوائجَه من خمرٍ وزيتٍ وثيابٍ ودراهم وكلِّ الأصناف، ويدعونه: القديسَ القديس. فبدلاً من أن يهرب من السُبح الباطل الناتج من قولِهم له القديس، يتعجرف الراهبُ المسكين، ويبدأ في مجالستِهم، فيأكل ويشرب معهم، ويستريح براحتهم، ثم يقوم في الصلاةِ ويعلِّي صوتَه حتى يقول العلمانيون إن الراهب يصلي ساهراً. وكلما زادوه مديحاً، زاد هو كبرياءً وعجرفة. فإن كلَّمه أحدٌ بكلمةٍ حسنة جاوبه حسناً. ثم يُكثر نظره إلى العلمانيين ليلاً ونهاراً، ويرشقه إبليس بسهامِ النساء، ونِشاب الصبيان، ويلقيه في اهتماماتٍ عالمية، ويَقلق وينزعج كما قال الربُّ: إن كلَّ من نظر إلى امرأةٍ نظرةَ شهوةٍ فقد أكمل زناه بها في قلبهِ. وإن كان ينظرُ إلى هذا القولِ على اعتبار أنه خرافة، فليسمع الربَّ قائلاً له: إن السماءَ والأرض تزولان، وكلامي لا يزول. وبعد ذلك يبدأ في حشد حاجته لسنتِهِ، بل يجمعها مضاعفةً، ويبدأ كذلك في جمعِ الذهبِ والفضة، ويلقيه الشيطان في هوَّةِ حبِّ المال، فإن أحضر له إنسانٌ ذهباً أو فضةً أو ملبوساتٍ أو غير ذلك مما يرضاه، فللوقت يقبله بفرحٍ ويُعدُّ المائدةَ الحسنة ويبدأ يأكل . أما البائسُ، لا بل المسيح، يتلوى جوعاً، ولا يفهمه أحدٌ. لهؤلاء قال سيدنا المسيح: إن دخولَ الجملِ في ثقبِ إبرةٍ، أيسرُ من دخول غني إلى ملكوتِ الله.
قولوا لي يا آبائي، هل الملائكةُ في السماءِ تجمعُ ذهباً وفضةً وتسجد لله. فنحن يا إخوتي عندما لبسنا هذا الزي، أتُرى لنجمعَ مقتنياتٍ وحطاماً، أم لنصير ملائكةً؟ فإذا كنا يا إخوتي قد هجرنا العالمَ ورفضناه، فلماذا نتراخى أيضاً ويردُّنا إبليس عن طريق المسكنةِ، أما فهمتم أن الخمرَ ونظرَ النساءِ والذهبَ والفضةَ والنياحَ الجسدي وقربَّنا من العلمانيين، هذه كلُّها تبعدنا من الله، لأن أصلَ الشرورِ كلِّها محبة الفضة، وبمقدار ما بين السماء والأرض من البُعد، هكذا بين الراهب المحبِ للفضةِ وبين مجدِ الله. نعم لا توجد رذيلةٌ أشرُ من رذيلةِ الراهب المحب للفضةِ. إن الراهبَ الذي يجالس العلمانيين يحتاج صلوات قديسين كثيرين. أما سمعتَ قول الرسول يوحنا: لا تحبوا العالم ولا شيئاً مما في العالم، فمن أحبَّ العالم، فليست فيه محبةُ الله. كذلك الرسول يعقوب يقول أيضاً: من أراد أن يكون خليلاً للعالم فقد صار عدواً لله. فلنَفِرَّ نحن أيها الإخوة من العالم كما نَفِرُّ من الحيةِ، لأن الحيةَ إذا نهشت فبالكاد تبرأ عضتُها، كذلك نحن أيضاً إن شئنا أن نكون رهباناً فلنهرب من العالم، لأن الأوفق لنا أيها الإخوة أن تكون لنا حربٌ واحدةٌ بدلا من قتالاتٍ كثيرة. قولوا لي يا إخوتي ويا آبائي: في أي موضعٍ اقتنى آباؤنا الفضائل، أفي العالم أم في البراري؟ إذن، كيف نقتني الفضائل ونحن في العالم؟ لن نستطيع ذلك ما لم نجُع وما لم نعطش وما لم نساكن الوحوش ونموت بالجسد، كيف نريد أن نرث ملكوت الله ونحن بين العالم؟ لننظر إلى ممالك الأرض فإنه ما لم يحارب الجندي ويغلب فلن ينالَ الرتبةَ، فكم وكم أحرى بنا أن نفعل ذلك. فلا نظن أننا نرثُ ملكوتَ السماوات ونحن بين العالم. فلا يُوَسوِسُ لنا الشيطانُ أفكاراً رديئةً هكذا قائلاً: اجمع حتى تستطيع أن تعمل صدقةً. لنعلم أن من لم يشأ أن يصنع رحمةً من فلسٍ واحدٍ فلن يعملَ رحمةً من ألفِ دينار. لا يليق بنا أن نفعل ذلك يا إخوتي، لأن هذه الأمور هي من عمل العلمانيين. إن الله لا يريدُنا نحن الرهبان أن نقتني ذهباً أو فضةً أو ملابس أو أموراً هيولانية، لأن الربَّ أوصى قائلاً: انظروا إلى طيورِ السماء، فإنها لا تزرع ولا تحصد ولا تخزِّن في الأهراء، وأبوكم السماوي يقوتها. إن الراهب المقتني ذهباً وفضةً لا يثق بأن الله قادرٌ على أن يعوله. وإن كان لا يعوله فلن يعطيه مُلكه.
إن الراهبَ الذي عنده حاجته وينتظر من يُحضر له، فهو شريك ليوداس الذي ترك النعمةَ وسعى طالباً محبة الفضة، وبولس الرسول إذ عرف ذلك، لم يَدْعُ محبةَ الفضةِ أصلَ كلِّ الشرورِ فحسب، بل وسماها أيضاً عبادة أوثان. فالراهب المحبُّ للفضةِ هو عابدٌ للأوثان، إن الراهب المحبُّ للفضةِ بعيدٌ من محبةِ المسيح، الراهبُ الذي له في قلايته فضة فإنه يعبد ويسجد للأصنام المنقوشة، أعني الدنانير، وكلُّ يومٍ يذبح لها عجولاً وكباشاً، بإخضاع نيته وإرادته لمحبة الفضة الرديئة، تلك التي تفصل الراهبَ عن طغماتِ الملائكة. فيا لمحبة الفضة المُرة، أصل كلِّ الشرور، الفاصلة الراهب من مُلك السماوات، والباعثة إياه إلى التعلق بسلاطين الأرض. يا لمحبة الفضةِ سبب كلِّ الرذائل، الساحبة للسان الراهب إلى كل شتيمةٍ وخصومة ونميمة، والجارة له إلى المحاكمات شبيهاً بالعلمانيين، ويح ذلك الراهب المحب للفضة، لأنه قد تخلى عن الوصية القائلة: لا تكنزوا لكم ذهباً ولا فضة. وقد يزعم ذلك الراهبُ المسكين قائلاً: إن الاقتناء لا يضرُّني. وهو لا يعلم أنه حيث الذهب والفضة والهيولانيات، فهناك دالةُ الشياطين وهلاكُ النفوس، والويلُ المؤبَّد.
كيف يدخلُ الخشوعُ في نفسِ إنسانٍ مقتنٍ للفضة، وقد حاد عن مصدر دعوتهِ إلى الحياة الدهرية، خالقه ورازقه، وصار بذلك متعبداً وساجداً لمنحوتات غير متحركة، أعني الدنانير. كيف يقتني الخشوعَ مَن هذه صفته؟ يا إخوتي ويا أحبائي، كيف يكون لنا نحن الرهبان ذهبٌ وفضة وملابس، ولا نكف كذلك عن الجمع، مع أن البائسَ، لا بل المسيح، جائعٌ وعطشان وعريان، ولا نفكر فيه؟ ماذا يكون جوابُنا أمام السيد المسيح، وقد هجرنا العالم، وها نحن نعاودُ الطوافَ فيه؟ إن طقسَنا ملائكيٌ لكننا جعلناه علمانياً. لا يكون هذا منا يا إخوتي. إيانا أن نعمله بل لنهرب من العالم، لأنه إن كان بالكاد نخلص في البريةِ، فكيف يكون حالُنا بين العلمانيين؟ فلن يكون لنا خلاصٌ، لا سيما والربُّ يقول: من لا يهجر العالم وكل ما فيه وينكر نفسَه ويأخذ الصليبَ ويتبعني فلن يستحقني. وأيضاً يقول: اخرجوا من بينهم وافترقوا عنهم وأنا أقبلكم وأجعلكم لي بنين وبنات. أرأيتم عِظم المنفعةِ من الهربِ من العالم؟ لأنه نافعٌ لنا جداً وموافقٌ، لأن مجالسَ العلمانيين ليس فيها شيءٌ سوى البيع والشراء وما يتعلق بالنساء والأولاد والزرع والدواب، فهذه المخالطة تفصل الراهبَ عن الله، فمشاركتهم في الأكلِ والشربِ تجلبُ الكثيرَ من الضررِ. ولسنا نعني بهذا أن العلمانيين أنجاسٌ، معاذ الله، لكنهم يسلكون في الخلاصِ طريقاً آخر غير طريقِنا. فهروبُنا هو هروبٌ من مخالطتهم. فلنطلب سبَّهم فينا أكثر من مديحهم لنا، لأن سبَّهم لن يفقدنا شيئاً أما مديحُهم فهو سببُ عقوبتنا. فما منفعتي إذا أنا أرضيْتُ الناسَ وأغضبتُ ربي وإلهي، لأنه يقول: لو كنتُ أرضي الناس فلستُ بعد عبداً للمسيح. إذن فلنبتهل أمامَ ربنا قائلين: يا يسوع إلهنا نجنا وأنقذنا من مخالطتهم».
من كلام مار إسحق قال: «ابتعد عن العالم، وحينئذ تحس بنتانتهِ، لأنك إن لم تبتعد عنه، فلن تحسَّ برائحتهِ الكريهة». فسُئل مرةً: «ما هو العالم؟ وكيف نعرفه؟ وما هو مقدار مَعزَّتهِ لمحبيه»؟ فأجاب وقال: «إن العالم هو تلك الزانية التي بشهوةِ حسنِها تجذبُ الناظرين إليها إلى حبِّها. والمقتَنص بعشقهِ والمتشبث به لا يقدر أن يتخلَّص منه حتى تفنى حياته، فإذا ما عرَّاه من كلِّ شيءٍ وأخرجه من منزلهِ يوم موتهِ، حينئذ يعرف الإنسانُ في ذلك اليوم أنه خداعٌ وسرابٌ مضل، حتى إذا ما جدَّ الإنسانُ في الخروج من هذا العالم المظلم، فإنه لن يستطيعَ الخلاصَ من حبائِلهِ ما دام هو منغمساً فيه».
جاء أحدُ الإخوةٍ إلى شيخٍ من الرهبان وشكا أخاه إليه قائلاً: «ماذا أصنعُ يا أبي فإن أخي يحزنني لأنه دوَّار»؟ قال الشيخ: «احتمله يا حبيبي، فإن الله قادرٌ أن يردَّه إذا ما رأى تعبَك وصبرَك، وأخذك له بالرفقِ واللين. وإياك والقساوة، فإن الشيطانَ لا يطردُ شيطاناً. وبرفقِك وصبرِك يرجع، لأن الله إنما يردُّ الإنسانَ بطولِ روحهِ وطيبِ قلبهِ واحتمالهِ».
أخبروا عن أنبا تاؤدورس: إنه لما كان شاباً وهو يسكنُ في البريةِ، قام ذات يومٍ يخبز لنفسِه خبزاً، فوجد أخاً ليس له من يعمل له خبزاً إذ لم يكن يجيد صناعةَ الخبز. فترك أنبا تاؤدورس خبزَه وعمل خبزَ ذلك الأخ، وجاء أيضاً أخٌ آخر فخبز له خبزَه، وبعد أن أراحهم حينئذ عمل خبزَه أيضاً».
جاء خبرٌ عن أخوين قوتل أحدُها بالزنى، فقال لأخيه: «يا أخي، إني منطلقٌ إلى العالم»، فبدأ أخوه يبكي ويقول: «لا أتركك تذهب إلى العالم لئلا تُتلف تعبَ رهبانيتك وبتوليتك». فأبى أن يقبلَ منه وقال له: «إما أن تتركني أمضي وحدي، وإما أن تجيء معي». فذهب أخوه، وحدَّث أحدَ الشيوخ بحالِه، فقال له الشيخ: «اذهب معه، فإن الله من أجلِ تعبك لا يتركه يقعُ في الزنى». فلما بلغا القريةَ، رفع الله عنه قتالَ الزنى من أجلِ تعب أخيه وعنائِه معه. وإذ به يخاطبُ أخاه قائلاً: «هَب أني وقعتُ في دنسِ الخطيةِ، فأي ربح لي من ذلك»؟ ثم أنهما رجعا إلى قلايتهما وحمدا الله على خلاصهِ وحسن صنيعه معهما.
أخبروا عن أخٍ حريصٍ على خلاصهِ، جاء من غربةٍ فأقام في قلايةٍ لطيفةٍ بطور سينا. فلما جلس في اليوم الأول، وجد على خشبةٍ صغيرة كتابةً قد كتبها الأخُ الذي كان فيما مضى ساكناً فيها وهو يقول فيها: «أنا موسى بن تادرس قد حضرتُ وأقمت ههنا». وكان الأخ يضع تلك الخشبةَ قدامه طول النهار يومياً. ويسأل: «من كتب هذه الكتابةَ»؟ ثم يُردف قائلاً: «أيها الإنسان، ليت شعري، أين أنت الآن؟ لأنك قلتَ: قد حضرتُ وأقمتُ. فإلى من كتبتَ هذا يا تُرى؟ تُرى في أي عالمٍ أنت في هذه الساعةِ»؟ فكان يداوم هكذا على هذا العمل طول النهار متذكراً الموت، ثابتاً في النحيبِ والبكاء. وكانت صناعتُه الخطَ المليح. فتناول من الإخوةِ ورقاً ليكتبَ لهم شيئاً كتذكارٍ منه لهم. لكنه لم يكتب لأحدٍ شيئاً سوى صيغةٍ واحدة، كتبها في ورقِ كلِّ واحدٍ منهم وذكر فيها: «اغفروا لي أيها الإخوة سادتي، فإنه كان لي عملٌ مع ذاك القادر على خلاصي، لذلك لم أفرغ منه حتى أكتبَ لكم».
أخبروا أيضاً: أنه كان يسكنُ بقرب هذا الأخِ أخٌ آخر كان بُستانياً، وقصد مرةً المضي إلى ديرٍ في يومٍ من الأيام، فقال لذلك الأخ الكاتب: «اعمل محبةً يا أخي واهتم بالبستان حتى أرجع». فقال له الأخ: «صدقني أنه على قدر استطاعتي لن أتوانى في الاهتمامِ به».
وبعد انصراف الأخ البستاني قال الأخ الكاتب في نفسِه: «يا مسكين، لقد وجدتَ خَلوةً فاهتم بالبستانِ». ثم أنه انتصب في قانونهِ من المساءِ إلى الصباح، لم يفتر، مترنماً بدموعٍ، مصلِّياً، ومكث على هذه الحال طول النهار كذلك إذ كان يوم الأحد المقدس. فلما جاء الأخ البستاني عند المساءِ، وجد البستانَ قد أفسدته القنافذ، فقال له: «غفر الله لك يا أخي،لأنك لم تهتم بالبستانِ». فقال له ذاك: «يا معلم، عَلِم الله، إني قد بذلتُ كلَّ قوتي وحفظتُه إلا أن اللهَ قادرٌ أن يعطينا ثمراً من البستانِ الصغير». فقال له الأخ: «صدقني يا أخي لقد تلف كلُّه». فقال له الكاتب: «لقد علمتُ بذلك إلا أني واثقٌ بالله، أنه قد أزهر أيضاً». فقال البستاني: «هلم بنا لنسقي». فقال الأخُ: «انطلق أنت اسقِ في النهار وأنا أسقي في الليلِ». فلما صار القحطُ والجدبُ، اغتمَّ البستاني وقال لذلك الكاتب جارِهِ: «صدقني يا أخي، إذا لم يُعِن الله، فليس لنا في هذا العام ماءٌ». فقال له الكاتبُ: «الويل لنا يا أخي إن جفَّت ينابيعُ البستانِ، بالحقيقة لن يكون لنا خلاصٌ أيضاً». وكان يقول هذا قاصداً ينابيعَ الدموعِ. فلما جاءت الوفاةُ للمجاهد القديس، سأل البستاني جارَه قائلاً: «اصنع محبةً ولا تقل لأحدٍ إني مريضٌ، لكن امكث عندي ها هنا اليومَ، وإذا انصرفتُ إلى الربِّ فاحمل أنت جسدي، واطرحه عارياً لتأكله الوحوش والطيور لأنه أخطأ قدام الله كثيراً، ولن يستحقَ أن يُدفن». فقال له البستاني: «صدقني يا معلم إن هذا الطلبَ صعبٌ عليَّ إتمامه». فأجابه قائلاً: «لا تخالفني في هذا الطلب، وإني أُعطيك عهداً، إن سمعتَ مني وعملتَ بي كما سألتُك، واستطعتُ أنا القيام بما ينفعك لنفعتك». ثم أنه بعد وفاتهِ، عمل به كما أمره في ذلك اليوم، فطرح جسمَه في البرية عارياً، لأنهما كانا مقيميْن في مكانٍ يبعدُ عن الحصنِ عشرين ميلاً يقال له ( ) وفي اليومِ الثالث ظهر له الأخُ المنصرف للربِّ في الرؤيا وقال له: «يا أخي، يرحمُك الله كما رحمني، صدقني إن رحمتَه عظيمةٌ جداً، فلقد رحمني الله بسببِ بقاء جسمي غير مدفون، وقال لي: لأجل تواضعك الكثير، قد أمرتُ أن تكونَ مع أنطونيوس، وقد طلبتُ إليه من أجلِك أيضاً، لكن اذهب واترك البستانَ، واهتم بالبستانِ الآخر، لأني في الساعةِ التي خرجتْ فيها نفسي كنت أبصرُ دموعَ عينيَّ وقد أطفأت النارَ التي كنتُ مشرفاً على المضي إليها».
كان أخٌ فاضلٌ حريصاً، وإذا صلَّى مع أخيه قانونَه تغلبه دموعُه، فيفوته من المزمور استيخن أو أكثر، وفي أحد الأيام سأله أخوه أن يخبرَه بما ينتابه أثناء قراءة قانونه حتى يبكي ذلك البكاء المر، فقال: «اغفر لي يا أخي، فإني أثناء قراءة القانون، أبصر القاضي دائماً، وأرى ذاتي واقفاً قدامه وقوفَ المجرمِ، وهو يفحصُ أحوالي، وأسمعه قائلاً لي: لِمَ أخطأتَ؟ وإذ ليس لي جوابٌ أحتجُّ به إليه يستدُّ فمي، وعلى هذا الوجه يفوتني الاستيخن من المزمور، فاغفر لي لأني أغمُّك. وإن كنتَ تجد راحةً في أن يصلي كلُّ واحدٍ منا قانونَه منفرداً، فافعل». فقال له أخوه: «لا يا أخي، لأني وإن كنتُ أنا لا أبكي، إلا أني في الواقع إذا رأيتُك تبكي، أعطي الويلَ لنفسي وأعتبرها شقيةً». فلما أبصرَ الله تواضعه، وَهَبَ له اتضاعَ أخيه.
قيل عن أخٍ من الرهبان إنه زار شيخاً متعَباً في عملِ الخير، كان ساكناً في المغاير التي تقع فوق المكان الملقب بإسرائيل، وكان الشيخُ ذا عقلٍ متيقظٍ لدرجةِ أنه كان حيثما توجَّه، يتوقف عن السيرِ ويستعرض فكرَه ويسأله: «كيف حالُك يا أخي؟ أين نحن»؟ فإذا وجد عقلَه يترنَّم بالمزامير ومتضرعاً، حمده واستدامه، وإن وجد ذاته متفكراً في أيِّ شيءٍ من الأشياء، شتم ذاته في الحال قائلاً: «هلم من هناك، قف عند حدك، والزم عملك». وكان الشيخُ يخاطب نفسَه بهذا الكلام دائماً: «يا أخي، يلوح لي أن الانصرافَ قريبٌ، ولستُ أرى مجالاً للنومِ أو التهاون بعد». فهذا الفاضل ظهر له الشيطانُ في وقتٍ من الأوقات، وقال له: «لماذا تتعب، إنك لن تخلص». فقال له الشيخ: «وماذا يهمك إن كنتُ لا أخلص؟ لكني سوف أوجد في العذابِ فوق رأسك، وتحت كل من فيه». هذا قال أيضاً: «سبيلُ الراهبِ إذا وقف مع إخوةٍ رهبان، أن يطرقَ برأسهِ دائماً إلى أسفل ولا ينظر بالجملةِ إلى وجه إنسانٍ، وخاصة وجه شاب. وإذا كان منفرداً ينبغي له أن ينظرَ إلى العلو دائماً. ذلك لأن الشيطانَ من شأنِه أن يغتمَّ ويرتاع إذا نظر إلى العلو نحو ربنا».
أُخبر عن أحد الرهبان أنه لم يكن له عملٌ سوى الصلاةِ بلا فتور. وكان كلّ عشيةٍ يجدُ في قلايته خبزاً يأكله. فزاره أحدُ الرهبان مرة ومعه ليف، فأخذه منه وصار يعمل في الليف. فلما حان وقتُ المساءِ طلب خبزاً كعادته ليأكل، فلم يجد. فبقي حزيناً، فأتاه صوتٌ قائلاً: «لما كنتَ تعمل معي كنتُ أعولك، فلما بدأت ممارسة عملٍ آخر، فاطلب طعامك مما تعمله بيدك».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق