الجمعة، 25 مايو 2012

زهور من بستان الرهبان 5..Flowers from the garden monks 5




زهور من بستان الرهبان 5

تأهل أحدُ الشيوخ لمواهب الله، وذاع صيتُ فَضلِهِ فاستدعاه الملكُ لينال بركةَ صلاتِهِ، فلما تناقش معه وانتفع منه، أحضر له مالاً، فقبله الشيخ وعاد به إلى قلايتِهِ، وبدأ في تنظيفها وتعميرها، فجاءه مجنونٌ (بروحٍ نجس) فقال له حسب عادتهِ: «اخرج من خليقةِ الله». فقال له الشيطانُ: «لن أطيعَك». فقال الشيخُ: «ولِمَ»؟ فأجابه: «لأنكَ صرتَ واحداً من خدامِنا إذ تركتَ عنك الاهتمامَ بالله، وأشغلتَ ذاتَك بالاهتمام بالأرضيات».
وراهبٌ آخر كان فاضلاً جداً لدرجةِ أنه كان يُخرج الشياطين بصلاتِهِ، وكانت له أمٌ عجوز مسكينةٌ، فحدثت مجاعةٌ عظيمةٌ، فأخذ الراهبُ خبزاً ومضى ليفتقد والدته، وبعد أن رجع إلى قلايتهِ أُحضر أمامه مجنونٌ فقام ليصلي عليه كعادتهِ، فأخذ الشيطانُ يهزأ به قائلاً: «ماما، ماما».
قيل عن الأب مقاريوس الصعيدي: إن إنساناً (دوقس) حضر من القسطنطينية ومعه صدقة للزيارة، فزار قلالي الإخوة طالباً من يقبل منه شيئاً، فلم يجد أحداً يأخذ منه لا كثيراً ولا قليلاً. وكان إذا قابل أحدَهم أجابه بأن لديه ما يكفيه، وأنه مصلِّ من أجلِهِ كمثل من أخذ منه تماماً، فصار ذلك الدوقس متعجباً، ثم أنه أحضر ذلك المال إلى القديس مقاريوس وسجد بين يديه قائلاً: «لأجلِ محبةِ المسيح اقبل مني هذا القليل من المال برسم الآباءِ». فقال له القديس: «نحن من نعمِةِ الله مكتفين، وليس لنا احتياجٌ إلى هذا، لأن كلاًّ من الإخوة يعملُ بأكثرِ من حاجتِهِ». فحزن ذلك المحتشم جداً وقال: «يا أبتاه من جهةِ الله لا تُخيِّب تعبي واقبل مني هذا القليل الذي أحضرتُهُ». فقال له الشيخُ: «امضِ يا ولدي وأعطه للإخوةِ». فقال له: «لقد طفتُ به عليهم جميعاً، فلم يأخذوا منه شيئاً، كما أن بعضَهم لم ينظر إليه البتةَ». فلما سمع الشيخُ فرح وقال له: «ارجع يا ابني بمالِك إلى العالم وأهلِهِ، لأننا نحن أناسٌ أموات». فلم يقبل المحتشمُ ذلك. فقال له القديس: «اصبر قليلاً». وأنه أخذ المالَ وأفرغه على بابِ الدير وأمر بأن يُضرب الناقوس، فحضر سائرُ الإخوةِ وكان عددُهم ألفين وأربعمائة، ثم وقف الأب وقال: «يا إخوةُ، من أجلِ محبة السيد المسيح، إن كان أحدُكم محتاجاً إلى شيءٍ فليأخذ بمحبةٍ من هذا المال». فعبر جميعُهم ولم يأخذ واحدٌ منه شيئاً. فلما رأى الدوقس منه ذلك صار باهتاً متعجِّباً متفكِّراً، ثم ألقى بنفسِهِ بين يدي الأب وقال: «من أجلِ اللهِ رهبني». فقال له القديس: «إنك إنسانٌ كبيرٌ ذو نعمةِ وجاهِ ومركز، وشقاءُ الرهبنةِ كثيرٌ، وتعبُها مريرٌ، فجرِّب ذاتَك ثم أخبرني». فقال: «وبماذا تأمرني أن أفعلَه من جهةِ هذا المالِ»؟ فقال له: «عمِّر به موضعاً بالأديرةِ». ففعل، وبعد قليلٍ ترهب، صلاته تكون معنا، آمين.
قيل عن القديس مقاريوس الوسطاني إن إنساناً أتاه بعنقودٍ مبكرٍ. فلما رآه سبَّح الله وأمر أن يُرسلوه إلى أخٍ كان عليلاً، فلما رآه الأخُ فرح، وهمَّ أن يأخذَ منه حبةً واحدةً ليأكلها، لكنه قمع شهوَتَه، ولم يأخذ منه شيئاً وقال: «خذوه لفلان الأخ لأنه مريضٌ أكثر مني». فلما أخذوا العنقودَ إليه رآه وفرح، لكنه قَمَعَ شهوتَه، ولم يأخذ منه شيئاً. وهكذا طافوا به على جماعةِ الإخوةِ فكان كلُّ من أخذوه إليه يعتقدُ أن غيرَه لم يره بعد، وهكذا لم يأخذوا منه شيئاً. وبعد أن انتهوا من مطافِهِم على إخوةٍ كثيرين أنفذوه إلى الأب. فلما وجد أنه لم تضع منه حبةٌ واحدةٌ، سبَّح الله من أجل قناعةِ الإخوةِ وزهدِهم. وكان القديسُ يقول: «كما أن بستاناً واحداً يستقي من ينبوعٍ واحدٍ، تنمو فيه أثمارٌ مختلفٌ مذاقُها وألوانُها، كذلك الرهبان فإنهم يشربون من عينٍ واحدةٍ، وروحٌ واحدٌ ساكنٌ فيهم، لكن ثمرَهم مختلفٌ، فكلُّ واحدٍ منهم يأتي بثمرةٍ على قدرِ الفيض المُعطى له من الله».
قال أحد الرهبان: «لا تتعرَّف بالرئيسِ ولا تتملَّقه، لئلا يحصلَ لك من ذلك دالةٌ فتشتاقَ للرئاسِةِ».
قال شيخ: «يا حنجراني، يا من تطلب أن تملأ جوفَك، الأجودَ لك أن تُلقي فيه جمرَ نارٍ من أن تتناول أطعمةَ الرؤساءِ».
قال أنبا أفرآم: «اهرب من المشارب، ولا تدخل المجالسَ لئلا تصير زانياً خِلواً من امرأةٍ تساكنك».
قال شيخ: «المنصرف إلى العالمِ بعد رفضهِ إياه، إما أن يسقطَ في فخاخِه ويتدنس قلبُه بأفكارِه، وإما أنه لا يتدنس لكنه يدين المتدنسين فيتدنس هو أيضاً».
قال القديس باسيليوس: لا تتجول في سائرِ العالم حيث لا تنتفع، ولا تحب الأسفارَ أو الطوافَ في القرى والبيوت، بل اهرب منها لأنها فخاخُ الأنفسِ. فإن ألحَّ عليك أحدُهم كي تدخل بيتَه معتقداً فيك العفةَ، فليتعلَّم ذلك الإنسان كيف يتبع إيمان قائد المائة الذي قال للسيد: «إني غيرُ أهلٍ لأن تدخلَ تحت سقف بيتي». وبذلك يقوم إيمانُهُ هذا مقامَ كلِّ شيءٍ له.
قال أنبا أفراطس: «إن شاء اللهُ حياتي فهو يعلم كيف يسوس أمري، وإن لم يشأ فما لي وللحياةِ». وكان يأبى أن يأخذَ من أحدٍ شيئاً، وإذ كان مُقعداً مُلقىً علي سريرٍ، فقد كان يقول: «إن أخذتُ من أحدٍ شيئاً، فليس لي ما أكافئه به».
وقال أيضاً: «يليق بالمتقدمين إلى الله أن ينظروا إليه وحده. ويلتجئوا إليه بوَرَعٍ هكذا، حتى لا يُعِيروا الشتيمةَ التفاتاً، حتى ولو كانوا مظلومين ربواتٍ من المرات».
قال شيخٌ: «المرائي بالمسكنةِ ويخدع بها الرحومين ليأخذَ منهم شيئاً في خفيةٍ، فهو خاطفٌ وظالم. لأنه أخذ بالرياءِ بغيرِ وجه حقٍّ، وما كان وقفاً على المساكين أخذه هو».
قال الأب زينون: «إن الراهبَ الذي يأخذُ صدقةً، سوف يعطي حساباً عنها».
قيل: حدث يوماً أن جاء إلى الإسقيط إنسانٌ غني عاد من غربةٍ وأعطى لكلِّ راهبٍ ديناراً صدقةً. وأنفذ كذلك بركةً لبعض الملازمين قلاليهم، فرأى أحدُهم في تلك الليلةِ حقلاً مملوءاً أشواكاً، وإنسانٌ يقول له: «اخرج ونظِّف حقلَ من أعطاك الأجرةَ»، فلما قام باكراً، أرسل الدينارَ لصاحبهِ قائلاً له: «خذ دينارَك، لأنه ليست لي قوةٌ على اقتلاعِ أشواكِ غيري، يا ليتني أستطيعُ اقتلاعَ أشواكَ حقلي فحسب».
قال أحدُ الآباء: «لا يكن لك في قلايتِك ثوبٌ زائدٌ عن حاجتِك ولستَ في احتياجٍ إليه، لأن هذا هو موتُك، لأن هناك قوماً آخرين غيرَك يؤلمهم البردُ، وهم أبرُّ منك وأحقُّ. وأنت الأثيم عندك ما يفضل عنك. لا تقتنِ إناءً يزيدُ عن حاجتِك حتى ولا سُكرُجة واحدة (أي طبقٌ واحد)، وإلا فعليك أن تجيبَ عما فضل عنك. لا تقتنِ ذهباً في كلِّ حياتِك وإلا فما يهتم الله بك. وإن أتاك أحدٌ بذهبٍ، وكنتَ محتاجاً، فأنفقه في قُوتِك، وإن لم تكن محتاجاً، فلا يبيت عندك. إن شئتَ أن تمتلك النوحَ، فاجتهد أن تكونَ أوانيك وكلُّ أمتعتك مسكينةً فقيرةً، مثل الإخوة الشحاذين. إذا اقتنيتَ مصحفاً (أي إنجيلاً) فلا تتنمَّق في تجليدِه ولا تُزيِّنه. ثوباً جديداً لا تلبس، لأن جميعَ هذه تمنع من النوحِ. وبالإجمال، ليكن جميعُ ما هو لك مما لا تتألم على فقدانِه. ثيابُك وحذاؤك وكلُّ أوانيك لتكن هكذا حتى لو جاء قومٌ ليسرقوها لا يرضون بها ولا يعجبهم شيءٌ منها».
وقال أحدُ الآباءِ أيضاً: «إن اللهَ يحتملُ خطايا أهلِ العالم، أما خطايا أهلِ البراري فلا يحتمل، لأن ما يطالبُ به أهلَ العالم يختلفُ عما يطلبه ممن قد تخلُّوا عن العالم. لأنَّ مَن هو في العالم له أعذارٌ كثيرةٌ، فأما نحن، فأيُّ عذرٍ لنا، نحن الذين قد قصدنا البريةَ، وتغرَّبنا فيها؟ الحقيقةَ، إن عقاباً شديداً وناراً تلتهب تلحَقُ بالعارفين لمشيئةِ الربِّ ولا يسلكون بمقتضاها».
قال القديس باسيليوس: «هذا ما يليق بالراهبِ: التمسكن، عقلٌ منخفضٌ، نظرٌ مُطرقٌ إلى الأرض، وجهٌ مُقَطَّبٌ، زيٌ مهمل، ثوبٌ وسخ حتى يكون حالُنا كحالِ النائحين الباكين، ثوبٌ بقدر الجسدِ لأن الغرضَ منه شيءٌ واحدٌ هو ستر الجسد من الحرِ والبرد، ولا نطلب ازدهار الصبغ وحسنَه ولا نعومةَ الثوبِ ولا ليونَتَه، لأن الميلَ إلى ذلك من صفاتِ النساء، كما يجبُ أن يكونَ الثوبُ سميكاً حتى لا يحتاج الأمرُ إلى وشاحٍ ليدفئَ من يلبسه. وليكن الحذاءُ بسيطاً يتمم الحاجةَ الداعيةَ إليه فقط. وكذلك الحال في الطعامِ، خبزةٌ واحدةٌ تسدُ الجوعَ، والماء ليروي ظمأ العطشان. أما المشي فلا يكون بطيئاً بانحلالٍ كما لا يكون بسرعةٍ وعجرفةٍ حيث الحركات الخطرة».
من كلام مار إسحق: «شيطانُ الزنى يرصُدُ ثوبَ الراهبِ، هل يلبسه باستمرارٍ أو يغيره عند التقائهِ بآخر، لأن هذا هو مفتاحُ الزنى».
وقال أيضاً مخاطباً الإخوة: «إن آباءَنا كانوا يلبسون خرقاً موصولةً قديمةً، وأغطيةً عتيقةً. أما الآن فلباسُنا ثيابٌ غالية الثمن. امضوا من ههنا ، فقد أفسدتم ما كان ههنا». ولما كانوا عتيدين أن يمضوا إلى الحصادِ قال لهم: «لن أوصيكم بشيءٍ لأنكم لا تحفظون شيئاً».
قال أنبا بموا: «يليقُ بالراهبِ أن يلبسَ ثوباً لو تركه خارج قلايتهِ أياماً مطروحاً، لا يرضى أحدٌ أن يأخذه لحقارتهِ».
قيل عن يوحنا فم الذهب: «إن مدةَ إقامتهِ في البطريركية كان غذاؤه ماءَ الشعير والدشيشة يومياً، كما كان يأخذ طعامَه بوزنٍ ومقدار. وهذا ما جعله ينسى الشهوةَ، أما ثوبُه فقد كان من خِرَقٍ وشعرٍ خَشِن، ولم يكن له ثالثٌ».
وبخصوص البعدِ من الأقرباءِ قيل: إن راهباً سأل الأب برصنوفيوس بشأنِ أخيه العلماني المحتاج إلى ثوبٍ، فأجابه: «أتسألني أيها الأخ بخصوصِ أخيك؟ إني لا أعرفُ لك أخاً غيرَ المسيح، فإن كان لك إخوةٌ فاعمل معهم ما شئتَ، فأنا ليس لي كلامٌ، لأنه إن كان الربُ نفسُه قال: من هي أمي ومن هم إخوتي؟ فماذا أقول أنا لك؟ هل تطرح وصيةَ الربِ وترتبط بمحبةِ أخيك حتى ولو كان مفتقراً إلى ثوبٍ، وإن كنتَ قد ذكرتَ أخاك، فلِمَ لم تتذكر المساكين الآخرين، لا بل لم تذكر القائل عن نفسِه: إني كنتُ عرياناً ولم تكسوني. ولكن الشياطين تُلاعبك بل وتُذكِّرك أيضاً بأولئك الذين كنتَ قد جحدتَهم لأجلِ المسيح لكي ما تظهر مخالفاً لأوامره».
كذلك قيل: سأل أحدُ الإخوةِ شيخاً وقال له: «إن أختي مسكينةٌ فهل أعطيها صدقةً، إذ ليس لها نظيرٌ في المساكين»؟ قال له الشيخُ: «لا». قال الأخ:« لِمَ أيها الأب»؟ قال له الشيخ: «لأن الدمَ يجذبُك إلى ذلك، أكثر من وصيةِ المسيح».
قيل كذلك إن أحدَ الإخوةِ كانت له والدةٌ تقيةٌ، فلما حدثت مجاعةٌ كبيرةٌ، أخذ قليلاً من الخبزِ ومضى إليها، ولما كان يسيرُ جاء إليه صوتٌ قائلاً: «أتهتم أنت بوالدتك أم أنا المهتمُ بها»؟ فميز الأخُ قوةَ الصوتِ، وخرَّ على الأرضِ بوجههِ قائلاً: «أنت يا ربُّ هو المهتمُ بنا». ونهض راجعاً إلى قلايتهِ. وفي اليوم الثالثِ جاءت إليه والدتُه وقالت له: «إن فلاناً الراهب أعطاني قليلاً من الحنطةِ، خذها واصنع لنا أرغفةً لنأكلَ». فلما سمع الأخُ بذلك، مجَّد الله وقوي أملُه.
قال أحدُ الآباء: «إن جحدتَ أنسباءَك بالجسدِ مع أمورِ الجسدِ لأجلِ الله، فلا تنخدع للرحمةِ على والدتك أو ابنك أو أخيك أو أحد أنسبائك، لأنك قد تخليتَ عن هذه كلِها، اذكر ساعةَ موتِك، فلن ينفعَك واحدٌ منهم».
قيل عن أحدِ رهبانِ الإسقيط (إنه كان له ولدٌ قبل رهبنتِه) وأنَّ ولدَه أُخذَ في خدمةِ السلطان، فكتبت أمُّ الصبي إلى زوجِها الراهب أن يسأل الوالي في إطلاقه، فأجاب الراهبُ وقال للمرسال: «إن هو أُخلي سبيله أما يأخذون غيرَه»؟ قال: «نعم». قال الراهب: «وأية منفعةٍ من أن أُفرِّح قلبَ هذه، وأُحزن قلبَ أخرى»؟ وكان ذلك الراهب يعملُ عملاً متواصلاً، فكان يأخذُ منه حاجتَه، وما بقي بعد ذلك يفرِّقه على المساكين، فلما حدثت مجاعةٌ عظيمةٌ، أرسلت الوالدة ولدَه إليه تطلب منه أن يعطيها خبزاً قليلاً، فلما سمع الراهبُ قال لولدِه: «أما يوجد في الموضعِ قومٌ آخرون محتاجون مثلُكم»؟ فأجابه: «نعم يا أبي كلُّ الناسِ محتاجون». فأغلق البابَ في وجههِ وتركه باكياً وقال: «امضِ يا ولدي، والمهتمُ بالكلِّ يهتم بكم». فسأل أحدُ الإخوة الشيخَ قائلاً: «أما يؤلمك الفكرُ إذ رددتَ هكذا»؟ فأجابه: «إن لم يُكره الإنسانُ نفسَه في كلِّ أمرٍ، فما يقدر أن يُقِّوم شيئاً من الصلاحِ البتةَ».
كان لأحدِ الرهبان أخٌ علماني وكان يواسيه من عملهِ وبقدر ما كان يواسيه، كان ذاك يفتقرُ أكثر. فمضى الراهبُ وأخبر أحدَ الشيوخِ، فقال له: «إن سمعتَ مني، فلا تعُد تعطيه شيئاً بعد، بل قل له: لما كان لي كنتُ أعطيك، أما الآن، فبقدر ما تيسَّر لك هات أنت لي. وكل ما يأتي به إليك أعطِه للمساكين واسألهم أن يصلَّوا من أجلِه». فلما جاء أخوه العلماني، قال له كما أعلمه الشيخُ، فمضى من عندِه كئيباً. وفي اليوم الثالث، أحضر له من تعبهِ قليل بَقلٍ، فأخذها الراهب وأعطاها للشيوخِ وسألهم أن يصلُّوا من أجلِه. ولما جاء ثاني مرة، أحضرَ له بقولاً وثلاث خبزات، فأخذها الراهبُ وعمل مثلما عمل أولاً، ولما جاء لثالثِ مرةٍ، أحضر له أشياءً ذاتَ ثمنٍ كنبيذٍ وسمك. فلما رأي الراهبُ ذلك تعجَّب واستدعى المساكين وأطعمهم وقال لأخيه: «هل أنت محتاجٌ إلى قليلٍ من الخبزِ فأعطيك»؟ فقال له ذاك: «لا يا أخي، لأني لما كنتُ آخذ منك شيئاً، كان كأنه نارٌ يدخلُ إلى بيتي فتأكله، وكأنه هباءٌ تأخذه الريح فلا أجده. ومنذ أن توقفتُ عن أن آخذ منك شيئاً، بارك الله لي». فمضى الراهبُ وأخبر الشيخَ بكلِّ ما جري فقال الشيخُ: «إن متاعَ الراهبِ هو نارٌ، أينما دخل أحرقَ».
قال أحدُ الآباء لراهب له مقتنيات: «لقد سُمي الراهبُ متوحداً لأنه أصبح يعيشُ وحدَه، لا يمتلك شيئاً. فإن كان له مِلكٌ يُجار عليه ويُظلم فيه، أو يجور هو ويَظلم، فليس هو إذن براهبٍ. لأن نواميسَ الملوك لا تُسلِّم بأن يحاكَم الرهبانُ في مجالسِ أحكامِهم، لأنهم قد ماتوا عن العالم، ولذلك فقد عَدِمَ كلَّ عفوٍ ذلك الراهبُ الذي يُدخِل نفسَه في مجالسِ الحكام لأجل شيءٍ يُظلم فيه أو يُجار عليه».
قيل أيضاً: أراد في يومٍ من الأيام والي البلاد أن يشاهد أنبا بيمين. لكن الشيخَ لم يشأ ذلك. فقبض الوالي على ابن أختِه بهذه الحجة وحبسه، كأنه قد عمل عملاً منكراً. وقال: «إن جاء الشيخُ وسألني من أجلِه فسوف أُطلقه». فجاءت إليه أختُه باكيةً على الباب، فلم يُجبها بجوابٍ البتة. فكرَّرت عليه قائلةً: «يا قاسي القلب، ويا حديدي الأحشاء، ارحمني فإنه وحيدي وليس لي سواه». فقال لها: «بيمين ما ولد أولاداً». فلما سمع الوالي قال: «وإن سألني بالمكاتبةِ فقط فإني أُطلقه». فأجاب الشيخُ قائلاً: «افحصه على ما يأمرُ به الشرعُ، فإن كان مستحقاً للقتل فليُقتل، وإلا فافعل كما تريد».
قال أحدُ الشيوخ: إن الرهبان المتوشحين بالزي المقدس، القاطنين في الأديرةِ، لا يليق بهم أن يقولوا: «لي ولك، ولهذا ولذاك». والجماعةُ المشتركة كذلك، ليس لهم أن يعتبروا شيئاً ما ملكاً لواحدٍ منهم. ولا يدورُ فيما بينهم القولُ: «لي ولك، ولهذا ولذاك». وإلا فما يليقُ أن تُدعى الجماعةُ بالكنوبيون، أي العيشة المشتركة، بل تُدعى مجامعَ لصوصٍ ومغارةً مملوءةً من كلِّ رذيلةٍ وسلبٍ للأشياء الطاهرة».
من الديادوخس: «الذي قد حظي وقاراً بمعرفةٍ مقدسة وذاقَ الحلاوةَ الإلهية، لا يجبُ له أن يحاكِم قط ولا يقيم دعاوى أو يجذب إلى مجلسِ حكمٍ بالجملةِ، حتى ولو سلب سالبٌ ملابسَه، لأن عدالة السلاطين في هذا الدهر ليست شيئاً بالمرة بالنسبة إلى عدالة الله. وإلا فأي فارقٍ إذن بين أولاد الله وأولاد هذا الدهر؟ وإليك ما فعله سيدنا يسوع المسيح، فإنه لما شتموه لم يشتم هو عوضاً، ولما آلموه لم يهدِّد، ولما نزعوا ثيابَه لم يتكلم، وتوجَّع لأجلِ خلاصنا، وما هو أعظم من ذلك كلِّه، أنه سأل الغفرانَ لفاعلي المكروه به».
سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «أريدُ أن أقيمَ مع آخر في كنوبيون حتى أستريحَ في قلايتي، ويعطيني عملاً أعمله بيدي ويهتمُ بي». قال الشيخ: «لا تفعل ذلك، وإلا فما كنتَ تستطيع أن تعطي أحداً خبزاً».
سأل أخٌ الأب بيمين قائلاً: «أريدُ أن أدخلَ إلى كنوبيون وأسكن فيه». فقال له الشيخُ: «إن شئتَ سكنى الكنوبيون، فإن لم تعتق نفسَك من هَمِّ كلِّ محادثةٍ، وتبتعد عن سائرِ الأشياء، فلا يمكنك سكنى كنوبيون، لأنه لن يكون لك هناك سلطانٌ إلا على عصاك».
قال أحدُ الآباء: إن شئتَ أن تجدَ راحةً في هذه الدنيا، قل في كلِّ أمرٍ تعمله: «أنا من أنا»؟ كما لا تدن أحداً.
وقال آخر: «ليكن فكرُك فكراً صالحاً هادئاً في أيِّ موضعٍ سكنتَ فيه، كما لا تطلب أن تُلقي قولَك قدامك، فتستريح».
وقال آخر: حيثما تجلس قل: «غريبٌ أنا، غريبٌ أنا».
وقال آخر: جاور من يقول: «أيَّ شيء أريد أنا»؟ فبمجاورتك لذاك سوف تجد راحةً.
وقال آخر: «لا تسكن في موضعٍ له اسم، ولا تجالس إنساناً عظيمَ الاسم».
سأل أخٌ الأب بيمين قائلاً: «ما معنى قوله: الذي يغضبُ على أخيه باطلاً»؟ قال له: «إن أخذ أخوك منك شيئاً، وظلمك فيه وغضبتَ عليه بسببهِ، فغضبُك هذا يكون باطلاً، لأنك غضبتَ لأجل أشياءٍ باطلةٍ، أما إن أراد إبعادك عن الله خالِقك، فحينئذ اغضب جداً، لأن غضبَك حينئذ لا يكون باطلاً».
ومرة سَمِعَ عن إنسانٍ أنه كان يواصل صومَ ستةِ أيامٍ، لكنه كان يغضبُ، فقال: «إن كان هذا قد تعلَّم كيف يطوي الأسبوعَ، فكيف لا يتعلم كيف يُبعد عنه الغضبَ»؟
قال الأب مقاريوس: «إن كنتَ في حالِ ردعِك غيرك تَحرد وتغضب، فأولى بك أن تشفي ألمَك أولاً، لأنه لا يليقُ أن تُهلك نفسَك لتُخلِّص غيرَك».
سأل إخوةٌ الأب أرمانيوس قائلين: «ماذا يجب أن نتدبَّر»؟ فأجابهم الشيخُ: «لا أتذكر أني سألتُ في وقتٍ من الأوقاتِ إنساناً بأن يعملَ شيئاً، ما لم أسبق فأُجيل في خاطري أني لا أغضب متى خالفني، ولم يعمل بما قلتُه له. وهكذا عشنا عمرَنا كلَّه بسكونٍ وسلامٍ».
سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «إن سكنتُ مع إخوةٍ، ورأيتُ منهم أمراً غيرَ لائقٍ فهل تشاء أن أتكلَّم»؟ قال الشيخُ: «إن كانوا هم أكبر منك أو في مستواك، فسكوتك خيرٌ لك. لأنك بسكوتك تخلص». فقال الأخُ: «فماذا أعملُ أيها الأب، لأن الأرواح تقلقني بأن أتكلمَ، وهكذا تجدني متعَباً». فقال الشيخُ: «إن كان ولا بدّ، فذكِّرهم مرةً باتضاعٍ وذلك بأن تؤخر إرادتك وتخضع لله، محتاطاً لنفسك ألا تتكلم فيهم بنميمةٍ، وعندي أن السكوتَ أفضل، لأنه دليلٌ على الاتضاع».
قال أحدُ الآباء: إنه لا يوجد أفضلُ من هذه الوصية: لا تزدرِ بأحدٍ من الإخوة، هو ذا قد كُتب: «توبيخاً توبِّخ قريبك ولا تأخذ بسببهِ خطيةً». فإن علمتَ أن أخاك مخطئٌ ولم تخبره بغلطتِه وثبت فيها يموتُ بخطيئتهِ، ما أجود التوبيخ لا سيما إذا كان بمحبةٍ واتضاع، لا بمعيرةٍ وازدراء».
قال شيخٌ: «إن كلَّ كلمةٍ يتكلمُ بها الإنسانُ ولا يستطيع أن ينطقَ بها قدامَ أخيه، فإنها تُعتبر نميمةً ووشاية».
من كتاب الدرجي: سمعتُ نمَّامين، فلما زجرتُهم قالوا لي بأنهم لا يفعلون شراً، وإنما يفعلون ذلك محبةً وشفقةً على أولئك الذين يتكلَّمون في حقِهم. أما أنا فقلتُ لهم: «ليست هذه محبةً، لكنك إن كنتَ تُحبَه حقاً، فصلِّ من أجلهِ خفيةً ولا تهجو أو تسبَّ أحداً».
قال أنبا بيمين: قد تجد إنساناً يُظنُّ به أنه صامتٌ، لكن فكرَه يدين آخرين، فمن كانت هذه صفته، فهو أبداً يتكلم. وقد تجد آخرَ يتكلم من بُكرةٍ إلى عشيةٍ، ويلازم الصمتَ، أعني أنه لا يتكلم كلمةً بلا منفعةٍ.
وقال شيخ: «إن شئتَ معرفةَ الطريقِ فعليك بأن تعتقدَ في ضاربك كاعتقادِك فيمن يحبك، وفي شاتمك كمن يمجِّدك، وفي ثالبك كمن يكرِّمك، وفي مُخزيك كمن ينيِّحك».
وقال آخر: «إن لم يكن قد صار عندك الامتهان كالإكرام، والخسران كالربح، والغربة كالقرابة، والعَوَز كالفضيلة، فامضِ واعمل ما شئتَ».
وقال آخر كذلك: «إن لم يعتقد الإنسانُ فيمن يظلمه كاعتقادِه في الطبيبِ، فإنه يظلم نفسَه ظُلماً عظيماً، فسبيلُك أن تتذكر من يظلمك كتذكرك طبيباً نافعاً لك، مُرسَلاً من قِبل المسيح إليك كما يلزمَك أن تتألم من أجلِ اسمِهِ».
قيل عن القديس مقاريوس: إنه كان في بعضِ القلالي أخٌ صدر منه أمرٌ شنيع وسمع به الأب مقاريوس، ولم يُرد أن يبكِّته. فلما علم الإخوةُ بذلك لم يستطيعوا صبراً. فما زالوا يراقبون الأخَ إلى أن دخلت المرأةُ إلى عِندِه. فأوقفوا بعضَ الإخوةِ لمراقبتهِ، وجاءوا إلى القديس مقاريوس. فلما أعلموه قال: «يا إخوة لا تصدقوا هذا الأمرَ، وحاشا لأخينا المبارك من ذلك». فقالوا: «يا أبانا، اسمح وتعالَ لتبصرَ بعينيك حتى يمكنك أن تصدِّق كلامَنا». فقام القديسُ وجاء معهم إلى قلاية ذلك الأخ كما لو كان قادماً ليسلِّم عليه، وأمر الإخوةَ أن يبتعدوا عنه قليلاً. فما أن علم الأخُ بقدومِ الأبِ حتى تحيَّر في نفسِه، وأخذته الرعدةُ وأخذ المرأةَ ووضعها تحت ماجورٍ كبيرٍ عنده، فلما دخل الأب جلس على الماجور، وأمر الإخوةَ بالدخول، فلما دخلوا وفتشوا القلايةَ لم يجدوا أحداً ولم يمكنهم أن يوقفوا القديس من على الماجور، ثم تحدثوا مع الأخِ وأمرهم بالانصراف. فلما خرجوا، أمسك القديس بيدِ الأخ، وقال: «يا أخي على نفسِك احكم قبل أن يحكموا عليك، لأن الحكمَ لله». ثم ودَّعه وتركه، وفيما هو خارجٌ، إذ بصوتٍ أتاه قائلاً: «طوباك يا مقاريوس الروحاني، يا من قد تشبَّهتَ بخالقك، تستر العيوبَ مثلَه». ثم أن الأخَ رجع إلى نفسِه وصار راهباً حكيماً مجاهداً وبطلاً شجاعاً. صلوات جميعهم تكون معنا آمين.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق