الجمعة، 25 مايو 2012

زهور من بستان الرهبان 4....Flowers from the garden monks 4




زهور من بستان الرهبان 4

قيل عن أحد الرهبان إنه كان بليغاً جداً في الإفرازِ والتمييز، وأراد السكنى في القلالي فلم يجد قلايةً منفردة، وأنه خرج تائهاً في البريةِ إلى أن لقيه أحدُ الشيوخ فأخبره بحالهِ، فأجابه الشيخ: «إن لي قلايتين، فاجلس في واحدةٍ منهما إلى حين يسهِّل المسيحُ لك قلايةً. فحَمَدَ أفضالَه. ولما سكن في القلاية قصده قومٌ من الرهبان لينتفعوا منه لكونهِ من أهلِ الفضل، وكانوا يحملون إليه ما سهل عليهم حمله. فلما نظر الشيخ صاحب القلاية ذلك، بدأ يحسده بإيعازٍ من الشيطان وقال لتلميذِه: «كم من السنين ونحن مقيمون في هذا المكان، ولم يقصدنا حتى ولا واحد من هؤلاء الرهبان. وهذا المحتال في أيامٍ قلائل استمال إليه الكلَّ. امضِ اطرده من القلاية». فمضى التلميذُ وقال له: «إن المعلمَ يسلِّم عليك ويسأل عن صحتِك ونجاح أحوالك واعتدال مزاجك، ويسألك أن تصلي من أجلهِ لأنه مريضٌ. ويقول لك: إن كان لك احتياجٌ إلى شيءٍ أقوم بتأديته لك». فقام الراهبُ وسجد للتلميذ وقال له: «بلِّغه سلامي عني، وقل له إني بخيرٍ ببركة صلواتك وليس لي احتياجٌ لشيء». فرجع التلميذ إلى الشيخ وقال له: «إن الراهبَ يُقبِّل يديك ويسألك أن تصلِّي من أجلِه وتمهله أياماً قلائل حتى يجدَ لنفسهِ قلايةً، ويرتحل عن قلايتك بسلام». فصبر ثلاثة أيام. وبعد ذلك أقلقه الحسدُ، فقال لتلميذهِ:« اذهب وقل له لقد صبرتُ أكثر من اللازم، فاخرج من قلايتي». فأخذ التلميذُ بركةً مما كان يوجد في القلاية، ثم جاء إلى الراهبِ وسجد بين يديه وقال له: «إن المعلمَ يسلِّم عليك ويسألك أن تَقبل منه هذه البركة لأجلِ السيد المسيح وتصلي من أجلهِ لأنه متعبٌ جداً، ولولا توجعه لكان قد حضر إليك». فلما سمع الراهبُ ذلك أدمعت عيناه وقال: «كنتُ أشتهي أن أذهبَ وأبصره». قال له التلميذ: «لا يا أبتاه، فإنه لا يحتمل أباً مثلك يرافقني إليه، لئلا يلحقني من ذلك شرٌ، ابقَ أنت ههنا وأنا أبلِّغه سلامَك ورسالتك». ثم ودَّعه وخرج وأتى إلى الشيخِ وقال له: «يا أبتاه إن الراهب يقول لك: لا يصعُب عليك الأمرُ، ولا تغضب، ففي يوم الأحد سوف أخرج من قلايتك». فمازال الشيخُ يترقب سواعي الليل حتى يوم الأحد، فلما لم يخرج الراهبُ، قام الشيخُ وأخذ عصا وهو مسبي العقل طائر الفكر، وقال لتلميذهِ: «تعالَ معي إلى هذا الراهب المحتال، فإنه إذا لم يخرج باختيارِه فسوف أطردُه بهذه العصا مثل الكلبِ». فلما رآه التلميذُ هائجاً، وقد سلب العدو فكرَه، قال له: «أسألُك يا أبتاه أن تستمعَ إلى مشورتي بأن تجلسَ ههنا وأنا أسبقك إليه وأُبصر إن كان عنده رهبان، لئلا إذا أبصروك على هذه الحال يطردونك عنه فلا تنال بُغيتك، أما إذا وجدتُه وحده أعلمتُك لتمضي إليه وتطرده». فاستصوب الشيخُ كلامَ التلميذ، وجلس وهو يصرُّ بأسنانهِ، ومضى التلميذُ إلى الراهب، وسجد له كعادتهِ وقال: «إن المعلم يسلِّم عليك، ولما أعلمتُه أن جسمَك ضعيفٌ احترق قلبُه ولم يستطع صبراً، وقد جاء ليبصرَك، وإنه بسبب ضعفهِ ما أمكنه المجيء إليك». فلما سمع الراهبُ ذلك الكلام خرج لوقتهِ للقائه بلا كساءٍ ولا قلنسوة على رأسهِ ولا عصا بيده. فسبقه التلميذُ إلى معلمهِ وقال له: «هوذا الراهبُ قد ترك قلايتك وها هو حاضرٌ ليودِّعك ويأخذ بركة صلاتك قبل ذهابهِ وانصرافهِ بسلامٍ». فلما سمع الشيخُ هذا الكلامَ تذكَّر كلامَه ومراسلاته له، وانكشفت عنه غمامةُ الحسدِ وبقى حائراً في نفسِه ماذا يعمل، وخجل من لقائِه، ولشده الحياءِ لم يقدر أن يرفعَ عينيه نحوه، فأخذ يولي الأدبار، فلما رآه التلميذُ على هذه الحال سجد له وقال: «يا أبتاه، التقِ بأخيك دون خجلٍ فإن جميعَ الكلامِ الذي قلتَه لي لم يصل إلى مسامعِه قط». فلما سمع الشيخُ بهذا الكلام فرح جداً، والتقى بالراهب بفرحٍ وقلبٍ نقي، ورجع معه إلى قلايته. فقال له الراهب: «اغفر لي يا أبتاه، لأنه كان الواجب عليَّ أنا أن آتي إليك، لأنك تعبتَ في المجيء إليَّ». فلما رجع الشيخُ إلى قلايته سجد بين يدي تلميذهِ وقال له: «إنك من الآن أنت الأب وأنا لا أستحق أن أكونَ لك تلميذاً، لأنك بعقلِك وسلامة ضميرك وحسن إفرازك خلَّصت نفسي من الفضيحةِ».
قيل أيضاً: «إنه كان يوجد شيخٌ له تلميذٌ جيد. ومن المللِ كان الشيخُ يخرجه خارج الباب ويزدري به، فكان التلميذُ يمكث جالساً خارجاً، ولما فتح الشيخُ البابَ في اليوم الثالث، وجده جالساً، فأدى له الشيخُ مطانية وقال له: «يا ولدي إن تواضعك وطول أناتك قد غلبا شرِّي وصغر نفسي، فهلم الآن إلى داخل، ومنذ الآن، كن أنت الشيخَ وأنا التلميذ».
قال الأب أوراسيوس: «إن عجينةَ فطيرٍ تُطرح في أساسٍ بقرب نهرٍ، لا تثبت ولا يوماً واحداً، وأما المطبوخة بالنارِ فتثبت كالحجرِ. هكذا كلُّ إنسان ذي عقل بشري، إذا صار رئيساً فإنه ينحلّ من التجارب إن لم يُطبخ بخوفِ الله مثل يوسف، فالأفضل للإنسان أن يعرفَ ضعفَه ويهرب من نير الرئاسةِ».
قيل عن أخٍ راهب كان يسكن القلالي، هذا أقام عشرين سنةً مواظباً على القراءة ليلاً ونهاراً، وذات يومٍ نهض وباع الكتبَ والمصاحفَ التي كان قد اقتناها، وأخذ وشاحَه وذهب إلى البريةِ الجوانية. فالتقاه أنبا إسحق وقال له: «إلى أين تمضي يا ولدي»؟ فأجابه الأخُ قائلاً: «يا أبي، إن لي عشرين سنةً وأنا أسمع أقاويلَ الكتبِ فقط، والآن أريدُ أن أبدأَ في الابتعادِ عملاً بما سمعتُه من الكتبِ»، فقدَّم الشيخُ صلاةً من أجلهِ ثم أطلقه.
قال أنبا أفرآم: إن أحدَ الإخوةِ سأل أخاً له قائلاً: «إن الأب أمرني بالمضي إلى المخبز لنخبز خبزاً برسم الإخوةِ، ولما كان عُمالُ المخبزِ علمانيين يتكلمون بما لا يليق، فلستُ أنتفعُ من سماعِ ما يقولونه، فماذا أصنعُ»؟ فأجابه قائلاً: «أما رأيتَ في المكتبِ صِبياناً كثيرين، وكيف أن كلَّ واحدٍ منهم يقرأُ ما لا يقرأه رفيقُه لعلمهِ أن معلمَه يطالبه فقط بإتقان ما يختص به ولا يطالبه بإتقان ما يختص بغيره، فإن كنتَ أنت تنهزمُ للآلام بمجرد سماعِك فظيع الكلام، فاستمع لقول القائل: امتحنوا سائرَ الأشياءِ وتمسكوا بأحسنِها».
وقال أيضاً: «وما لنا وللعالم، وما لنا بمعاملاته؟ نحن قد مُتنا عن العالم، كلٌّ منا بأكلةٍ يسدُّ جوعَه، وأيدينا تساعدنا على خدمةِ جسدِنا بمعونةِ الله لنا، لأنه قال: لا يوجد متجندٌ يقوم بنفقةِ نفسه بانشغاله في أمورِ الحياة، إذ كيف يستطيع وهو مشغولٌ أن يُرضي قائدَ الجيش ومليكه».
قال أنبا إشعياء: «إن مضيْتَ إلى رؤساءِ العالم مريداً مصادقتهم فليس فيك مخافةُ الله».
وقال أيضاً: «إياك أن تقتني لك أصدقاءً من بين رؤساءِ الدنيا لكي لا يبعد اللهُ عنك».
وقال أيضاً: «إن شئتَ أن تكونَ معروفاً عند الله، فلا تُعرِّف الناسَ بنفسِك، لأن المرتبطَ بأمورِ العالم إذا سمعَ الحقَّ يُرذلُ قائلَه».
قال أنبا أبوللو: «لتكن عندكم هذه علامةً عظيمةً للنجاحِ متى اقتنيتم عدمَ الشهوةِ لشيءٍ ما من أمورِ العالم، لأن هذا هو فاتحة جميع مواهب الله».
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق