زهور من بستان الرهبان 10 |
قال شيخٌ: «الذي يأكلُ كثيراً ويقومُ عن المائدةِ وهو جائعٌ، أفضل من الذي يأكلُ قليلاً ويبطئ أمام المائدةِ حتى يشبعَ».
وقال آخر: «إذا رأيتَ شاباً يصعدُ إلى السماءِ بهواه، فَشِدْ رِجلَه واطرحه فإن هذا أنفع له».
كان أحدُ الرهبان المجاهدين إذا قالت له الشياطين في فكرِه: «ها قد ارتفعتَ وصرتَ كبيراً»، كان يتذكَّر ذنوبَه قائلاً: «ماذا أصنعُ من أجل خطاياي الكثيرة». وإذا قالوا له: «لقد فعلتَ ذنوباً كثيرةً وما بقي لك خلاصٌ»، يقول: «وأين رحمة الله الكثيرة». فانهزمت عنه الشياطين قائلين: «لقد قهرتنا، إن رفعناك اتضعتَ، وإن وضعناك ارتفعتَ».
أخبر أبٌ أنه أبصرَ أربع مراتب مرتفعةً في السماءِ، الأولى: مريضٌ شاكرٌ لله. والثانية: صحيحٌ يضيفُ الغرباء وينيح الضعفاء. والثالثة: منفردٌ في البريةِ مجتهدٌ. والرابعة: تلميذٌ ملازمٌ لطاعةِ أبيه من أجلِ الله. ووجد أن مرتبةَ التلميذ أسمى من المراتب الثلاث الأخرى، وزعم أنه سأل الذي أراه ذلك قائلاً: «كيف صار هذا هكذا وهو أصغرهم، فأصبح أكبرهم مرتبةً»؟ فقال: «إن كلَّ واحدٍ منهم يعمل الخيرَ بهواه، وأما هذا فقد قطع هواه لله، وأطاع معلمه، والطاعة لأجلِ اللهِ أفضل الفضائل».
قال شيخٌ لتلميذهِ: «ويحٌ لي يا ابني، فإنني ربما إذا مضيْتُ بالليلِ إلى موضعٍ يُبعدني من اللهِ، وسمعتُ صوتَ الكلابِ، أخرج لساعتي فزعاً منها، فالخطأ الذي لا يردُّني عنه خوفُ اللهِ، ردَّني عنه خوفُ الكلابِ».
وقال أيضاً: «لو أننا نحبُّ اللهَ مثلما نحبُّ أصدقاءَنا، لكنا مغبوطين، لأنني رأيتُ مَن أحزن صديقَه، فلم يجد هدوءاً حتى تجدَّدت المودةُ بينهم بالمراسلة وبالاعتذار وبالاستغفار وبالهدايا، أما الله فنغضبه بذنوبنا ولا نكترث لذلك».
قال شيخٌ: ذهبنا مع إخوةٍ إلى ديرٍ خارج الإسكندرية على بعد خمسة عشر ميلاً، فلقينا أنبا تودري، وقد كان رجلاً كثيرَ التعبِ في الرهبنةِ، ومعه موهبة الصبر، فحدثنا عن أخٍ كان ساكناً في القلالي الكائنة خارج الإسكندرية، وكان قد اقتنى له موهبة البكاء، وفي يومٍ من الأيامِ أوجعه قلبُه وجاءه بكاءٌ كثير، فلما رأى كثرةَ البكاءِ، قال لنفسِه: «هذه علامةٌ دالةٌ على أن يومَ موتي قد دنا»، فكان كلما تفكَّر في ذلك، كان البكاء يزداد ويكثر كلَّ يوم. فلما انتفعنا من حديثِ الشيخِ سألناه عن الدموع: «لأي سببٍ يا أبانا تأتي الدموع من نفسِها مرةً ولا تأتي من نفسِها مرةً أخرى»؟ فقال لنا الشيخُ: «الدموعُ مثل المطر، والراهبُ مثل الفلاح، فينبغي له إذا أبصر المطرَ قد جاء، أن يحرصَ ألا يفوته شيءٌ منه، بل يصرفه كلَّه إلى أرضهِ، حقاً أقول لكم يا بَنيَّ إنه ربما يكون يومٌ واحدٌ ممطر أخيَر من السنةِ كلِّها. فمن أجل ذلك، إذا رأينا المطرَ قد جاءنا، فلنحرص أن نحفظَ أنفسَنا ونتفرغ إلى التضرع إلى الله دائماً، إذ لا ندري هل نجد يوماً آخرَ مثلَ اليوم الذي جاءنا فيه البكاءُ أم لا». فسألناه نحن أيضاً وقلنا: «أخبرنا يا أبانا كيف ينبغي للإنسان أن يحفظَ ذلك البكاء إذا جاء»؟ فقال لنا الشيخ: «من قبل كلِّ شيءٍ، لا يتوجه ذلك الإنساُن الذي يأتيه البكاء في ذلك اليوم، أو تلك الساعة، أو تلك السنة، إلى إنسانٍ، ويتحفَّظ ألا يملأ بطنَه وألا يستكبر في قلبهِ، ويُفضَّل أن يبكي وأن يتفرَّغ للصلاةِ والقراءة، فإذا جاء النوحُ فهو يعلِّمه الأمورَ التي تضره، والأمورَ التي تأتي به». ثم إن الشيخ حدثنا وقال: «إني أعرفُ أخاً كان جالساً في قلايته يعمل في الضفيرةِ، وكانت الدموعُ تأتيه بغزارةٍ، فكان إذا رجع إلى العمل في الضفيرة، يجمع عقلَه ويأتيه البكاء، حتى في القراءةِ كذلك، فإنه إذا أخذ المصحفَ جاءه البكاءُ، وإذا تركه ذهب البكاء عنه، حينئذ قال لنفسه: حسناً قال الآباءُ، إنَّ النوحَ هو معلمٌ، يعلِّم الإنسانَ كلَّ شيءٍ ينفع نفسَه».
مضى أخٌ إلى الأب سلوانس وأخبره بأن له عدواً قد كثر شرُّه، وقد سأل السحرةَ في إهلاكِه، وأنه يريدُ أن يسلِّمه إلى السلطان ليؤدِّبه وتنفع نفسه. فقال له الشيخ: «اعمل ما شئتَ». فقال الأخ: «اصنع لي صلاةً». فقام الشيخُ ليصلي، ولما بلغ إلى قولهِ: «اغفر لنا يا ربُّ خطايانا كما نغفر نحن لمن أخطأ إلينا»، قال: «لا تغفر لنا يا ربُّ خطايانا، كما لا نغفر نحن لمن أخطأ إلينا». فقال الأخ: «لا تقل هكذا يا أبي». فأجابه الشيخُ: «إذا كنتَ تريدَ أن تنتقمَ ممن أساء إليك، فهذا ما يجب أن يقال يا ولدي وهكذا يكون». فصنع الأخُ مطانية وصفح عن عدوهِ.
فسَّر أحدُ الشيوخِ قولَ الله: «على خطيتين وثلاث خطايا صبور، وأما الرابعة فلا أحتمل». فقال: «الأولى هي التفكير في الشرِّ، والثانية هي الخضوع للفكر، والثالثة هي التحدث باللسان، والرابعة هي إتمام الفعل، وعن هذه ينتقم».
قال شيخٌ: «إن من يحب السكوت ينجو من سهام العدو، أما الذي يحب الجماعات فإنه يُصاب بجراحات كثيرةٍ».
كان إنسانٌ يريد أن يترهب، وكانت أمُه تمنعه، ولم يزل يلحُّ عليها قائلاً أريد أن أخلِّص نفسي، حتى توفيت أمه بعد قليل، فمضى وترهب، وصار متوانياً في رهبنته. فحدث أن مرض جداً، وخُطف عقلُه إلى موضع الدينونةِ، فرأى أمَه مع الذين يُعذَّبون، ولما رأته قالت: «ما هذا يا ولدي، وكيف جئتَ إلى ها هنا، وأين قولك: أريد أن أخلِّص نفسي»؟ فبقي حائراً ولم يدرِ كيف يجيبها. فرجع إلى نفسِه وقام من مرضِه، وعلم أن الله الرحوم قد افتقده ونبهه، فحبس ذاته في قلايةٍ لطيفة، وجلس يهتم بخلاص نفسِه بالتوبةِ، والبكاء على ما سلف من توانيه، حتى كان الآباء يطلبون إليه أن يكفَّ عن البكاء قليلاً، فكان يجيبهم: «إن كنتُ لم أحتمل تعيير أمي، فكيف يكون حالي إذا وقفتُ قدام المسيح بحضرةِ الملائكة يوم الدينونة. أيمكنني أن أحتمل ذلك الخزي المعد للخطاة»؟
قال شيخٌ: أراد إنسانٌ موسر أن يعلِّم أولاده النشاطَ، فقال لهم: «هل تعلمون كيف صرتُ غنياً؟ إن سمعتم مشورتي استغنيتم مثلي». فسألوه عنها، فقال لهم: «في كلِّ سنةٍ يوجد يومٌ من أيامِها كلُّ من عمل فيه باجتهادٍ استغنى، إلا أني لشيخوختي قد نسيت أيَّ يومٍ هو، فلا تتوانوا أنتم في العمل كلَّ يومٍ، لئلا يفوتكم العمل في ذلك اليوم المبارك، فيضيع تعبُكم في السنةِ كلِّها». ثم قال الشيخُ: «هكذا نحن أيضاً لسنا نعرفُ يومَ وفاتِنا، فإن توانينا حين وفاتنا، فاتنا مقصدنا وضاع كلُّ تعبنا، وإن اجتهدنا إلى الآخر وجدنا ملكوت السماوات».
وقال أخٌ آخر: «كما أن الكنزَ إذا ظهر نقص، كذلك الفضائل إذا اشتهرت وعُرفت تبيد كلُّها، وكما يذوب الشمع من أمام وجه النار، كذلك تسترخي النفس وتهلك وينقطع نشاطُها من مديحِ الناسِ».
كان أحدُ الإخوةِ يرى نعمةَ الله على الهيكلِ، فلما قال لأخيه: «لِمَ تأكل مبكراً»؟ ارتفعت ولم يرها بعد.
أخبر أحدُ الآباء إنه كان ساكناً بالقربِ من أخٍ عمَّال مع الله، فاعتراه توانٍ وكسل، وبعد مدة انتبه من توانيه ولام نفسَه قائلاً: «يا نفسي، إلى متى تتوانين عن خلاصِك؟ أما تخافين من دينونة الله يا شقية وأنت في مثل هذا التواني، فتُسلَّمين للعذاب الدائم»؟ فلما تفكَّر في مثل هذا، أنهضَ نفسَه في عملِ الله. ففي بعض الأيام وهو واقفٌ يصلي، أحاطت به الشياطين وعذَّبته، فقال لهم: «إلى متى تؤذونني؟ أما كفى ما قاسيته في زماني من التواني»؟ فقالت له الشياطين: «لما كنا نراك متوانياً، كنا متوانين عنك، ولما رأيناك قمتَ وتجردت لنا، قمنا نحن أيضاً عليك، فتلقَّى ما يأتيك». فعندما سمع ذلك، أخذته غيرةٌ، وازداد نشاطاً وحرارةً في عمل الله. وبنعمة الله حصل على الغَلَبة.
كان شيخٌ قديس له عادة إذا جلس في عمل يديه ينظر إلى الأرضِ، ويجمع عقلَه ثم يحرِّك رأسه ويقول بتنهدٍ: «تُرى ماذا يكون»؟ ثم يسكتُ قليلاً ويرجع إلى عملِه في الضفيرة، ثم يعيد القول، وهكذا استمر على هذه الحال جميع أيام حياتهِ.
أخٌ أغلق على نفسِه بابَ قلايته زماناً يسيراً، فقاتلته أفكارٌ مكتومة وأحلامٌ سمجة، فأراد الامتناعَ من شربِ الخمر، فبعث إلى شيخٍ قديس يستشيره في ذلك، فأجابه الشيخُ قائلاً: «إن كنتَ تريد أن تخلص فاهرب من شيطانِ العظمةِ، واجعل لك قليلَ محقرةٍ لأن المحقرةَ تُهلك العظمةَ وتبعدها، ولا تدع أحداً يخدمك، بل اخدم أنت نفسك، وأنت تخلص بمعونة الله، والآن فلا تغلق البابَ الخشب، بل بالحري أغلق بابَ لسانِك».
قال شيخٌ: «إذا كنتَ جالساً في قلايتك بسكوتٍ، فلا تظن أنك تفعل أمراً كبيراً، بل افتكر أنك كلبٌ عَقُور مسجون، كيلا تبصر الناسَ فتعقرهم».
قال أحدُ الشيوخِ: «عوِّد نفسَك يا ابني عند كلامِك عن الرهبان أن تقول: إن هذا أخيَرُ مني، وهذا أحرصُ مني في رهبانيته، وهذا أبرُّ مني. على أن تقول ذلك بنيةٍ صادقةٍ من كلِّ قلبك، لأن ذلك يجعلك تنظر ذاتَك تحت الخليقةِ كلِّها، وحينئذ يسكن فيك روحُ الله، أما إن كنتَ تزدري بإخوتك وتحتقرهم وتَعُدَّ نفسَك شيئاً وتستكبر، فإن نعمة الله تبعد عنك، وتُسلَّم إلى دنس الجسد الذي يقسِّي قلبَك مثل الحجرِ».
قال أحدُ الشيوخ: «إذا كان الراهبُ حريصاً مجاهداً، فإن الله يطلب منه ألا يرتبطَ بشيءٍ من أمورِ هذه الدنيا، لئلا يشغله ذلك عن ذِكر ربِّهِ، وعليه أن يطلبَ إليه بلجاجةٍ وبكاءٍ ليغفرَ الله خطاياه».
وقال شيخٌ: «كلُّ من ذاق حلاوةَ المسكنةِ، فإنه يستثقل ثوبَه الذي يلبسه وكوزَ الماء الذي يشرب به، لأن عقلَه قد اشتغل بالروحانيات. فإذا ما ارتبط الراهبُ بالدنيا وما فيها، وصنع هواه، فإن جميعَ تعبهِ يذهبُ باطلاً».
وقال أيضاً: «الجوعُ والتعبُ يُبطلان قتالَ الزنى، وطولُ الروحِ والرحمةُ يهدئان الغضبَ، وقراءةُ الكتبِ والسهرُ في الصلاةِ يجمعان العقلَ الطوَّاف».
قال شيخ: «كلُّ من يحاربه إبليس وجنوده بالقتال، وهو لأجل ذلك ينوح ويبكي ساهراً، طالباً معونة الله، فهو يُستجابُ، لأن السهرَ يحلُّ الخطيةَ، والبكاءُ يغسلُ الذنوبَ».
كما قال شيخٌ: «إن الهدوءَ هو أولُ زكاوة النفس، لأن اللسانَ حينئذ لا يتكلم بكلام الناس، والعينان لا تنظران الجمالَ والحسنَ المنحرف عن الواجب، والأذنان لا تسمعان الأصوات اللذيذة التي ترخي قوة النفس، مع كلام الضحك واللعب، والقلب لا يتبدد بالعلل البرانية، ولا الحواس تنصبُّ إلى العالم، ولكنه يرفع نفسه ويهتم بالله».
كان شابٌ في المدينةِ قد صنع شروراً كثيرةً، وكان منغمساً في الخطايا، وبرحمةِ الله، أحسَّ بعد ذلك بكثرةِ خطاياه، فحبس نفسَه في قبرٍ لكي ما يتوب عما صدر منه، وطرح وجهَه على الأرضِ وهو يقول: «لا ينبغي لي أن أرفعَ نظري إلى السماءِ لكثرة خطاياي، ولا أن أذكرَ اسمَ الله بفمي النجس، ولا أن أصلي». وكان يقول في نفسِه: «إني لا أستأهل السُكنى مع الناسِ الأحياء، ولكن مع الموتى». فحبس نفسَه في القبرِ وهو يائسٌ من الحياةِ، وكان يتنهد من وجعِ قلبهِ، فلما انقضى أسبوعٌ وهو على هذه الحال، أتاه بالليلِ أجنادُ الشياطين وهم يصيحون قائلين: «أين ذلك النجس الذي لم يشبع من الدنس، هل يريد الآن أن يصير نصرانياً؟ ألا تنطلق بعجلةٍ من ههنا، لأن الزناةَ والخمارين أصحابك يتوقعون حضورك إليهم، فاطرح عنك هذا الأمرَّ البطال، فما الذي يحملك على أن تقتلَ نفسَك أيها الأرعن، إنما أنت بجملتك لنا وقت وهبت لنا حياتك بعهودٍ، فأنت غريمٌ لنا، لماذا تهرب منا؟ ألا تردَّ علينا جواباً؟ ألا تقوم وتذهب معنا»؟ أمَّا هو، فمن وجعِ قلبهِ لزم السكوتَ، فلما كثُرَ عليه الكلامُ ولم يجبهم، حينئذ بدءوا يضربونه، واستمروا يضربونه حتى مزَّقوا جسَده، فلم يستطع أن يتحركَ، كما لم يقدروا أن يُزيغوه عن فكرِه الصالح. فتركوه مثل ميتٍ وانصرفوا وهو في تنهدٍ شديدٍ مسلِّماً نفسَه لله، ثم أن أهل بيتهِ خرجوا يطلبونه، فلما وجدوه سألوه عن أمرهِ، فأخبرهم بما حلَّ به، فأرادوا أن يأخذوه معهم، فامتنع. وفي الليلةِ التالية، عاد إليه الشياطين، وضربوه، ولما كانت الليلة الثالثة، أتوه أيضاً وضربوه حتى بقي فيه قليلُ نفسٍ، فلما رأى الله انكسارَ قلبهِ، منعهم عنه، فهربوا وهم يقولون: «قد غلبتنا». ولم يعودوا إليه بعد ذلك، فسكن في ذلك القبر بقية حياته بالزكاوةِ، واقتنى رهبنةً فاضلةً، وصار سبباً لرجوع خطاةٍ كثيرين إلى التوبةِ».
قال شيخٌ: «الاتضاع هو شجرة الحياة، التي لا يموت آكلوها».
وقال أيضاً: «تشبَّه بالعشارِ، لئلا تُدان مع الفريسي».
قوتل أخان بالزنى، فانطلقا إلى العالمِ وتزوَّجا، وبعد ذلك ندما وقال أحدُهما للآخرِ: «ماذا ربحنا، لقد تركنا عملَ الملائكةِ وجئنا إلى هذه النجاسة، ومصيرُنا بعد ذلك أن نمضي إلى جهنم النار. لنرجع إلى البريةِ ونتوب». فرجعا إلى البريةِ، وأتيا إلى الشيوخِ وسألاهم أن يطلبوا إلى الله من أجلهما. فأمروهما أن يحبسا نفسيهما سنةً واحدةً ويتضرعا إلى الله كي يتحنن عليهما. وكانوا يعطونهما خبزاً وماءً بالتساوي. فلما انقضى زمانُ توبتهما وخرجا من حبسِهما، أبصر الشيوخُ أحدَهما متغير الوجه معبَّساً، وأبصروا الآخرَ حسنَ المنظرِ باشًّا، فعجب الآباءُ من ذلك، لأن حبسَهما وطعامَهما كان واحداً. ولكن منظرهما ليس بواحدٍ. فسألوا المتغير الصورةِ: «ماذا كان تفكيرُك أثناء مدة حبسِك»؟ فقال: «كنتُ أتذكر الشرورَ التي عملتُها، والعذابَ المعدَّ لي، ومن شدة فزعي لصق لحمي بعظمي». ثم سألوا الآخر: «وأنت ماذا كنتَ تفكر وأنت جالسٌ في حبسِك». فقال: «كنتُ أشكر الله الذي خلَّصني من نجس العالم ومن العذاب الدائم، وأنعم عليَّ بأن أعمل عملَ الملائكةِ، وعلى ذلك كنتُ أفرح». فقال الشيوخ: «إن توبةَ كليهما واحدةٌ عند الله».
أخٌ من الرهبان قوتل بالزنى، فقام بالليلِ وذهب إلى أحدِ الشيوخِ وكشف له سرَّه، وسأله أن يصلي من أجلهِ، فعزاه الشيخُ وشجَّعه. ولما رجع الأخُ إلى قلايته، اشتد عليه القتالُ، فرجع ثانية إلى الشيخ، وفعل ذلك مراراً، وكان الشيخُ في كلِّ مرةٍ لا يُحزنه، ولكنه كان يكلِّمه بما فيه منفعة نفسِه قائلاً: «كلما قاتلك هذا الشيطان تعال وبُح به فإنه ليس شيءٌ يُبعد شيطان الزنى مثل إظهار أفكارِه وأعمالِه وفضيحتِه، وليس شيءٌ يفرِّحه غير كتمان ذلك». تردد ذلك الأخُ على الشيخِ في تلك الليلةِ إحدى عشرة مرة، وهو يكشف له أفكاراً، أخيراً قال:« قُل لي يا أبي كلمةً»؟ فقال له الشيخ: «ثق يا ابني لو أن الله يدع فكري وقتالي وقفاً عليك لما احتملتَ، ولكنتَ أنت تسقط بالأكثر إلى أسفل». فلما قال الشيخُ هذا الكلام باتضاع، كفَّ الله القتال عن الأخِ.
قيل عن أخٍ كان ساكناً في ديرٍ إنه من شدة القتال كان يسقط في الزنى مراراً كثيرةً. فمكث يُكره نفسَه ويصبر كيلا يترك إسكيم الرهبنة، وكان يصنع قانونَه وسواعيه بحرصٍ، ويقول في صلاتهِ: «يا ربُّ أنت ترى شدة حالي وشدة حزني، فانتشلني يا ربُّ إن شئتُ أنا أم لم أشأ، لأني مثل الطين، أشتاقُ وأحبُّ الخطيةَ، ولكن أنت الإله الجبار اكففني عن هذا النجس، لأنك إن كنتَ إنما ترحم القديسين فقط فليس هذا بعجيبٍ، وإن كنتَ إنما تخلِّص الأطهار فما الحاجة، لأن أولئك مستحقون، ولكن فيَّ أنا غير المستحق يا سيدي أرِ عجب رحمتك لأني إليك أسلمتُ نفسي». وهذا ما كان يقوله كلَّ يومٍ، أخطأ أو لم يخطئ، فلما كان ذات يوم وهو دائمٌ في هذه الصلاة، أن ضجرَ الشيطانُ من حُسن رجائهِ ووقاحتهِ المحمودة، فظهر له وجهاً لوجه وهو يرتل مزاميره، وقال له: «أما تخزى أن تقف بين يدي الله بالجملةِ وتسمي اسمَه بفمِك النجس»؟ فقال له الأخ: «ألستَ أنت تضربُ مرزبةً وأنا أضربُ مرزبةً؟ أنت توقعني في الخطيةِ، وأنا أطلب من الله الرحوم أن يتحنن عليَّ، فأنا أضاربك على هذا الصراع حتى يدركني الموتُ. ولا أقطع رجائي من إلهي، ولا أكف من الاستعداد لك، وستنظر من يغلب: أنت أو رحمة الله». فلما سمع الشيطانُ كلامَه قال: «من الآن لا أعود إلى قتالك، لئلا أسبب لك أكاليل في رجائك بإلهك». وتنحى الشيطان عنه من ذلك اليوم، ورجع الأخُ إلى نفسِه وأخذ ينوح ويبكي على خطاياه السالفة، فإذا كان الفكرُ يقول له: «نِعمَّا لأنك تبكي». فكان يجيب فكرَه بذِكرِ خطاياه. وإذا قال الفكرُ له: «أين تذهب لأنك فعلتَ خطايا كثيرة»، يقول: «الربُّ يفرحُ بحياةِ الميِّت ووجود الضال».
سُئل أنبا بيمين: «ما هي التوبة»؟ فقال: «الإقلاع عن الخطية وأن لا يعاود فعلها، لأنه لذلك دُعي الصديقون لا عيب فيهم، لأنهم أقلعوا عن الخطيةِ فصارا صديقين».
سأل أخٌ الأب شيشوي قائلاً: «ماذا أفعلُ يا أبتاه، فقد سقطتُ»؟ قال له الشيخُ: «انهض أيضاً». قال الأخُ: «نهضتُ ورجعتُ وقعت». فأجابه الشيخُ: «انهض أيضاً». فقال الأخُ: «إلى متى أيها الأب»؟ قال له: «إلى أن نؤخذ، إما في الخير وإما في السقطةِ، لأن الإنسانَ فيما يوجد فيه يؤخذ».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق