زهور من بستان الرهبان 12 |
من سيرةِ الأب باخوميوس: في بعضِ الأحيانِ ظهر الشيطانُ للأب باخوميوس يتجلى بصورةِ السيدِ المسيحِ، وقال له: «افرح يا باخوميوس لأني جئتُ لافتقادِك». ففكر في نفسِه قائلاً: «من شأنِ المناظرِ الإلهيةِ أنها من لذةِ بهجتِها وحلاوةِ نعيمِها تسبي تخيل مستحقيها إليها ولا يبقى لهم فكرٌ آخر، ولكن أفكاري الآن تروي فنوناً وألواناً». فلما وجده الشيطانُ مفكراً، أخذ في استئصالِ أفكاره، فقال الأب في نفسِه: «إني كنتُ أفكرُ أفكاراً والآن فلا وجود لها». وإذ قال ذلك في نفسِه قام إلى الشيطانِ وهو باسطٌ يده كمن يريد أن يمسكَه، وفي الحال صار كدخانٍ وتلاشى.
قيل عن أحدِ الآباءِ إن الشيطانَ تراءى له في شبهِ ملاكٍ نوراني وقال له: «أنا غبريال، قد أُرسلت إليك». أجاب الشيخُ: «لعلك أُرسلت إلى غيري وأما أنا فخاطئٌ». فلما سمع الشيطانُ هذا الكلام منه باتضاعٍ، اختفى ولم يره.
كان أحدُ الشيوخِ جالساً في قلايتهِ مجاهداً، وكان ينظرُ الشياطينَ عياناً ويحتقرهم، فلما رأى إبليسُ نفسَه مقهوراً من الشيخِ، ظهر له قائلاً: «أنا هو المسيحُ». فأغمض الشيخُ عينيه، فقال له الشيطانُ: «أنا المسيح، وتغمض عينيك»؟ فأجابه الشيخُ قائلاً: «لا أريدُ أن أبصرَ المسيحَ ههنا». فلما سمع إبليسُ منه ذلك، غاب عنه.
قال أنبا أور: إني أبصرتُ إنساناً في البريةِ خَيَّلت له الشياطينُ طغماتَ ملائكةٍ ومراكبَ حافلةً، وملكاً في وسطهم، فقال له: «أيها الإنسانُ، لقد أتقنتَ كلَّ شيءٍ، إذن خرَّ لي ساجداً وأنا أرفعك كما رفعتُ إيليا». فقال الراهبُ في فكرِه: «أنا في كلِّ يومٍ أسجدُ لملكي المسيح، فلو كان هذا هو المسيح حقاً، لما التمس مني السجودَ الآن». ولما جال هذا في فكرِه قال: «إن ملكي هو المسيح وأنا دائماً أسجدُ له، وأما أنت فلستَ ملكي». ولما قال هذا الكلامَ، تلاشى ذلك الخيالُ للوقتِ، هذا ما شرحه ذلك الأب كأنه عن غيرِه، وأما الآباء الذين كانوا معه فقالوا: «إنه هو الذي رأى ذلك».
حكى راهبٌ تقي قائلاً: إني في حالِ سفري لأسجدَ في أورشليم جئتُ إلى موضعٍ حيث كان هناك جَرفٌ عالٍ وفيه مغارةٌ، ومن تحتهِ يوجد ديرٌ، فدخلتُ إليه، فقال لي سكانُه إن أحدَ الرهبانِ أراد أن يسكنَ تلك المغارةَ، وسأل الرئيسَ في ذلك، فقال له: «يا ولدي، إنك لا تقدر أن تسكنَ المغارةَ، لأنك لم تُخضِع أسقامَ نفسِك بعد، ولا آلامَ جسمِك للقوةِ الناطقةِ، كما أنك لا زلتَ تجهل حيلَ إبليسِ المتفننةِ، فالأجود لك أن تقيمَ بالديرِ، وتخدم آباءَك وتربح صلواتِهم ولا تبقى وحدَك مقاتِلاً شياطين خبثاء». ولكنه لم يقتنع، فأفسحَ له الرئيسُ في ذلك، وصعد إلى المغارةِ ورفع السُّلمَ. وكان أحدُ الإخوةِ يُحضر له طعاماً ويرفعه في زنبيلٍ. ثم أن إبليسَ، الذي لم يزل محارباً للسالكين طريقَ الفضيلةِ، دبَّر له وهقاً ليرميه في هوةِ الكبرياءِ ويأخذه أسيراً، فظهر له في شكلِ ملاكٍ نوراني وقال له: «اعلم أيها الأخ، إنه لطُهرِ نيَّتِك وشرفِ سيرتك، أرسلني الربُّ خادماً لقدسِكَ». فأجابه الراهبُ: «وما الذي فعلتُه حتى تخدمني ملائكةٌ»؟ قال له ذاك: «إن جميعَ أعمالِك جليلةٌ عظيمةٌ، ازدريتَ بزخارف العالمِ، وتنسَّكتَ، وتوافرتَ على الصومِ والصلاةِ والسهرِ، ثم انعزلتَ عن الرهبانِ، وسكنتَ وحدَك في هذا الموضعِ، فكيف لا تخدمك ملائكةٌ»؟ بهذه الأقوالِ وأمثالِها نفخ التنينُ في ذلك الراهبِ، وصار يأتيه في كلِّ يومٍ ويخاطبه بمثلِ هذا الكلامِ. ثم أنه حدث في بعضِ الأيامِ أن رجلاً وقع بين اللصوصِ وسلبوا مالَه، فهذا جاء إليه، فتقدَّم إبليسُ وجاء إليه في صورةِ ملاكٍ وقال له: «إن إنساناً مقبلاً إليك سرق اللصوصُ بيتَه ووضعوا ما أخذوه منه في مكانِ كيت وكيت». فأتى الرجلُ وسجد تحت المغارةِ فأجابه الراهبُ من فوق: «مرحباً بك يا أخي، قد عرفتُ حزنَك، إن لصوصاً أخذوا حاجاتك وهي كذا وكذا، وهي مخبأةٌ في المكانِ الفلاني، امضِ خذها وصلِّ عليَّ». فرجع الرجلُ إلى ذلك المكانِ ولما وجد أشياءَه ذُهِلَ، وأشاع الخبرَ بين الناسِ أن الراهبَ ساكنَ المغارةِ يعلمُ الغيبَ. فأقبل إليه جمعٌ غفيرٌ، رجالاً ونساءً وأحداثاً متسائلين، ودخل فيه الشيطانُ وصار يُخبر كلَّ واحدٍ بما ناله في زمانهِ، وبما يناله. فلما سمع رهبانُ ديرِه عجبوا كيف بلغ هذه المنزلةَ في زمنٍ يسيرٍ.
وفي يومٍ الاثنين ثاني أسبوعِ القيامةِ، ظهر له إبليسُ وقال له: «اعلم أيها الأبُ، إنه لحسنِ سيرتِك فإن ملائكةً كثيرين مرسَلون خلفَك ليحملوك إلى السماءِ حتى تعاين المجالَ الذي هناك. وإن الإله المتحنن لم يشأ هلاكَه، فألهمه أن يُطْلِعَ الرئيسَ على هذا الأمرِ، فراسله بيد الأخِ الذي يأتيه بالطعامِ، فلما سمع الرئيسُ بذلك أسرعَ بالمضي إليه وقال له: «يا ولدي لماذا استدعيتني»؟ فأجابه قائلاً: «بماذا أكافئُك يا أبي عن جميعِ ما عملتَه مع حقارتي»؟ فأجابه الرئيسُ: «وماذا عملتُ معك من الخيرِ»؟ فقال له: «خَيْرُك عليَّ كثيرٌ: بك استحققتُ لبس هذا الزي، بك سكنتُ هذه المغارةَ، بك بلغتُ أن أنظرَ ملائكةً، بك أُلهمتُ بعلمِ الغيبِ». فلما سمع ذلك قال له: «أأنت يا شقي تنظر ملائكةً وتعلم الغيبَ؟ أما قلتُ لك لا تصعد إلى المغارةِ لئلا تُضلك الشياطين»؟ فقال الراهبُ: «لا تقل هكذا يا أبي المكرَّم، إني بصلواتِك أنظرُ ملائكةً، وفي يوم الصعودِ ها أنا عتيدٌ أن أرتفعَ معهم إلى السماءِ بجسدي هذا، وإذا وصلتُ إلى هناك فإني أسألُ ربي يسوعَ المسيحَ أن يأمرَ بأن ترفعَك الملائكةُ أنت أيضاً، لتكونَ معي تعاين المجدَ الذي هناك». فلما سمع الرئيسُ هذا لطم على وجهِه وحدَّثه قائلاً: «لقد جُننتَ يا شقي، وضاع رُشدُك، ولكن على كلِّ حالٍ ها أنا مقيمٌ معك حتى أعاينَ آخِرَ أمرك، فإذا رأيتَ ملائكتَك الأرجاس، أعلمني». ثم أنه أمر برفعِ السُّلم، وأقام معه مصلياً الإبصالتس وصائماً، فلما كان اليومُ المُعيَّن لارتفاعِه نظر الشياطينَ قادمةً إليه، فقال: «لقد جاءوا أيها الأب». حينئذ احتضنه الرئيسُ وصرخ بصوتٍ جهوري: «أيها الرب يسوع المسيح ابن الله، آزر الأخَ المخدوعَ». فأرادوا أخذَه من يدِ الرئيسِ، فزجرهم باسمِ الربِّ، فما كان منهم إلا أن أخذوا وزرةَ الأخِ وغابوا مقدارَ ساعةٍ، وإذا بالوزرةِ ساقطةٌ نحو الأرضِ. فقال له الرئيسُ: «أنظرتَ يا شقي ماذا فعل الشياطينُ بوزرتِك؟ هكذا أرادوا أن يعملوا بك». ثم أنه أحضر السُّلم وأنزل الأخَ معه إلى الديرِ ورسم له أن يخدمَ في المخبزِ والمطبخِ مدة سنة، وبذلك ذلَّل فكرَه.
قال القديس قاسيانوس الرومي: «كان إنسانٌ شيخٌ اسمه إيرنيس، هذا منذ أيامٍ قلائل، كابدَ سقطةً يُرثى لها قدام أعيننا، إذ هزأت به الشياطين، فهبط من تلك الرفعةِ إلى قعرِ الجحيمِ بسببِ شظفِ الطريقِ الذي سلكه، إذ سكن البراري مدة خمسين سنةً مستعملاً تقشف السيرةِ والنسك، طالباً أبداً أطرافَ البريةِ والتفرّدَ أكثر من كلِّ أحدٍ، فهذا بعد الأتعابِ الكثيرةِ، تلاعب به إبليسُ وطرحه في سقطةٍ ثقيلةٍ، وسبَّب به للآباءِ القدماء الذين في البريةِ ولكلِّ الإخوةِ مناحةً عظيمةً، ولو أنه استعمل الإفرازَ لما لحقه ما قد لحقه. وذلك أنه تبع فكرَه في الأصوامِ والانفرادِ بعيداً عن الناسِ لدرجةِ أنه حتى ولا في يومِ الفصحِ المجيد كان يجيء مع باقي الآباءِ إلى الكنيسةِ كي لا يضطره الحالُ إلى أن يأكلَ مع الآباء شيئاً مما يوضع على المائدةِ، مثل قطاني أو غيره، لئلا يسقط عن الحدِّ الذي حدَّده لنفسِه من النسكِ، فهذا ظهر له الشيطانُ بشبهِ ملاكِ نورٍ، فسجد له وأقنعه أن يرمي نفسَه في بئرٍ عميقةٍ ليتحققَ عملياً عناية الله، وأنه لن يلحقه ضررٌ عظيمٌ لعِظم فضيلتهِ، ولما لم يميز بفكرِه من هو هذا المشير عليه بهذه المشورةِ لظلامِ عقلهِ، فطرح نفسَه في بئرٍ في منتصفِ الليلِ، وبعد زمانٍ عرف الإخوةُ أمرَه، وبالكدِّ والتعبِ الكثيرِ انتشلوه وهو بين الحياةِ والموتِ، ولم يعش بعد ذلك سوى يومين ومات في اليومِ الثالثِ، وخلَّف للإخوةِ حزناً ليس بقليلٍ. أما الأب بفنوتيوس، فلما بعثته محبتُه للبشرِ، أمر بأن يُقدَّم عنه قربانٌ مثل المتنيحين، ذاكراً أتعابَه الكثيرة وصبرَه على شقاءِ البريةِ».
وراهبٌ آخر كان ينظر دائماً في قلايتهِ ضوءَ سراجٍ، فانقاد لعدم التمييز، وقَبِلَ في بعضِ الأوقاتِ شيطاناً على أنه ملاكٌ، فأمره ذلك الشيطانُ أن يُقدِّمَ للهِ ولداً له كان معه في الديرِ لينال بذلك كرامةَ أبي الآباءِ إبراهيم. فانقاد لهذه المشورةِ لدرجةِ أنه كاد يتمِّمها بالفعلِ، لولا أن الغلامَ نظره يسنُّ السكينَ بخلافِ العادةِ ويُجَهِّز ما يربطه به، فهرب منه ونجا.
كذلك راهبٌ آخر اسمه نومينوس، هذا أظهر من ضبطِ الهوى مقداراً زائداً، ومكث سنين كثيرةً حابساً نفسَه في قلايةٍ، فهذا تلاهت به الشياطينُ فيما بعد وهزأت به بإعلاناتٍ ومناماتٍ أظهروها له، فتهوَّد واختتن بعد أتعابٍ وفضائل جزيلةٍ فاق بها جميعَ الإخوةِ، لأن الشيطانَ لما رام خديعته أراه مراراً مناماتٍ صادقةً ليحسِّن قبول نفاقِه، ويجعله حَسِنَ الانصياعِ لقبولِ الضلالةِ التي كان عتيداً أن يمليها عليه أخيراً، فأراه في بعضِ الليالي شعبَ المسيحيين مع الرسلِ والشهداءِ مظلمين مكمَّدين معبَّسين مغمومين من كلِّ خزي، ثم أراه شعبَ اليهودِ مع موسى والأنبياءِ متلألئ ضياءً، باشاً مستبشراً، وعرض عليه المُخادعُ قائلاً: «إن شئتَ نوال فرح وضياء هذا الشعب فتهوَّد واختتن». فيلوح من جميع ما قيل، أن السالف ذكرهم تلاهت بهم الشياطين لخلوِهم من نعمةِ الإفرازِ.
من كتابِ الدَّرج: المصدِّق المنامات يشبه من يريدُ أن يلحقَ ظلَّه ليُمسكَه، فإنَّ شياطينَ العجرفةِ ينذروننا في الحلمِ بما يكون مكراً منهم، فإذا تمت المنامات نتخشع نحن كأننا قد تقرَّبنا من نعمةِ النبوةِ، فيتعجرف فكرُنا جملةً، طائعين الشيطان. إن الشيطانَ هو روحٌ علاّمٌ بما في طقسِ الهواء، فإذا عرف أنه قد مات فلانٌ يسرع ويخبر به ويخدع الخفيفي العقول، وقد يتشكَّل دفعاتٍ بشكلِ ملاكِ نورٍ أو شهيدٍ من الشهداءِ، ويرينا ذلك في الحلمِ وإذا انتبهنا يملأنا فرحاً وأبهةً.
قال أحدُ الشيوخِ: حتى ولو ظهر لك ملاكٌ حقيقيٌ فلا تقبله بل حقَّر ذاتَك قائلاً: «أنا عايشٌ بالخطايا فلا أستحقُ أن أنظرَ ملاكاً».
جلس أحدُ الرهبانِ ناسكاً في قلايتهِ، فأراد الشياطين أن يخدعوه بصورةِ ملائكةٍ، وإنهم أنهضوه للذهابِ إلى اجتماع الكنيسةِ وأروه أنواراً، فجاء إلى شيخٍ وقال له: «يا أبانا، إن الملائكةَ تأتيني بصورةٍ وتقيمُني لأذهبَ إلى اجتماعِ الكنيسةِ». قال له الشيخُ: «لا تقبل منهم ذلك يا ولدي، إنهم شياطين، فإذا أتوك قل لهم: أنا متى أردتُ قمتُ، ومنكم لا أسمع». وفي الليلةِ التالية جاء الشياطيُن فنبَّهوه كعادتهم، فأجابهم بما قاله له الشيخُ، فقالوا له: «هذا الشيخُ السوء الكذاب إنما يخدعك، فقد أتاه أخٌ يستعير منه شيئاً كان عنده، لكنه كذب وقال: ليس عندي، وصرفه دون أن يعطيه شيئاً». فجاء الأخُ في الغداةِ إلى الشيخِ وأخبره بما كان، فقال له الشيخُ: «أمّا ما طلبه الأخ مني وكان عندي ولم أعطه فذلك لأني عرفتُ أنه شيءٌ يسبب له خسارةَ نفسِه، فرأيتُ أن أتجاوزَ وصيةً واحدةً ولا أتجاوز عشر وصايا كي لا ينتهي أمرُنا إلى الحزنِ، فأما أنت فلا تسمع من الشياطين الذين يريدون أن يخدعوك». وبعد أن دعَّمه الشيخُ بالتعليم صرفه إلى قلايته.
دخل راهبٌ إلى البريةِ وكان يصوم الستةَ أيامٍ، وفي اليوم السابع كان يأتي إلى الصلاةِ ويتناول الطعامَ، ولا يزيدُ عن الصلاةِ كلمةً، فهذا مضى إليه الشياطينُ وخدعوه في أشياءٍ كثيرةٍ وأنذروه بأمورٍ جرت في بلدانٍ مختلفةٍ، فصدَّق بما خُيِّل له وظن بالمخيلين له أنهم أرواحُ قواتٍ قديسةٍ، واتفق وقتئذ أن مضى ليفتقد أخاً مريضاً وتظاهر لقومٍ كانوا هناك كأنه يحكي عن غيرِه فقال: «هل يمكن لإنسانٍ أن يعلمَ ما يجري في العالمِ»؟ فلما سمعوه فهموا أنه هو المخدوع، فزجروه قائلين: «إن شَغلتَ فكرَك بمثل هذا الخداع فلا تَعُد إلينا». وللوقت انتبه وندم، فلما عادت الشياطين تخبره، دعاهم كذبةً، وللوقت تغيرت صورهم إلى حيواناتٍ مفزعةٍ وتهددوه وانصرفوا عنه.
وراهب آخر اسمه ولاس، قورنثاني العقل متشامخ، هذا جاء إلى البريةِ وسكن مع الآباءِ لعدةِ سنين، وأتقن التقشفَ وشظفَ السيرةِ إلى أقصى غايةٍ، فخُدع من الأُبهةِ وتناهى في العجرفةِ كثيراً، وأقنعه إبليسُ بأنَّ الملائكةَ تخدمُه في كلِّ ما يحتاج إليه، وكما حكى عنه رفاقُه، إنه في وقتٍ من الأوقاتِ وهو يُخيِّط الزنابيلَ في ليلٍ معتمٍ داجٍ أن رمى بمسلةِ الخياطةِ على الأرضِ فظهرت له شمعةٌ بفعلِ إبليسِ، فتعجرف واستكبر من هذا الحادثِ المرِّ، فاتفق أنَّ قوماً غرباءَ أحضروا إلى الإخوةِ فاكهةً، فأرسل الأب مقاريوس الطوباوي لكلِّ واحدٍ نصيباً بمقدار حفنةٍ، وأنفذ له ضمناً، فلم يأخذ ما أُرسل إليه، بل شتم وضرب موصِّلَه وقال له: «امضِ وقل لمقاريوس، ما أنا دونك لتُنفذ لي بركةً». فعلم الأب أنه قد خُدعَ، وبعد يومٍ مضى إليه ليعزيه، وقال له: «يا أخي لقد تلاهت بك الشياطينُ، فكُفّ واطلب من الله أن يرحمَك». فلم يُصغِ إلى كلامِه، فمضى من عندِه حزيناً متحققاً انخداعه، فلما رأى إبليسُ أنه قد انخدع له وانقاد إليه، تشكَّل له بشكلِ المخلصِ وأتاه بالليلِ مع شياطينِه كملائكةِ الربِّ حاملين أنواراً، وظهر له في كرةٍ ناريةٍ تخيَّل له في وسطها المخلص، وإن واحداً من الشياطين قال له إن المسيح قد أحب سيرتَك وقد جاء لينظرَك، فاخرج من قلايتِك ولا تعمل شيئاً آخرَ سوى أنك تقوم من بعيدٍ، وإذا نظرته قائماً وسطَ الكلِّ، خر له ساجداً، ثم ارجع إلى قلايتِك. فلما خرج ولاس وراء المصاف وحاملي الأنوار، وقف على بعدٍ وسجد لضد المسيح، وهكذا انخدع عقلُه المفسود لدرجةِ أنه جاء إلى البيعةِ في اليوم الثاني وبمشهدٍ من جماعةِ الإخوةِ قال: «إني لستُ في حاجةٍ إلى قربانٍ لأني بالأمس شاهدتُ المسيحَ». حينئذ ربطه الآباءُ بالحديدِ مدة سنةً كاملةً حتى كسروا عجرفتَه وكبرياءَه بسيرةٍ لا عجب فيها، وشفوا الضدَّ بالضدِّ على ما يقال. فإن كان مع غروس الفردوس نَبَتَ عودُ معرفةِ الشر والخيرِ، فلا عجب إن نبتت مع المناقبِ الشريفةِ أثمارٌ رديئةٌ تولِّد الموتَ، فيليق بالمفرِز أن يكونَ كلَّ حين حذراً، لأنه مراراً كثيرةً تصير الفضائلُ الجليلةُ أسباباً لسقطاتٍ عظيمةٍ، متى لم يحكمها محكم بنيةٍ متضعةٍ ذات إفرازٍ، وعلى ما كُتب: «رأيتُ صدِّيقاً هالكاً ببرهِ»، مع أن البرََِّ لم يكن سببَ الهلاكِ بل العجرفة.
وأيضاً شابٌ آخر إسكندري، كان رشيقاً ذكياً فطناً حسنَ السيرةِ، هذا بعد إحكامهِ سيرةً فاضلةً، وصل إلى ذروتها وبلغ غايتها بأتعابٍ كثيرةٍ وأعراقٍ جزيلةٍ، فتشامخ وتعجرف حتى أنه رفع عنقَه على جميعِ الآباءِ، بتيه وأُبهةٍ، وتجاسر على شتيمةِ الكلِّ وفي جملتهم شَتَمَ القديس أوغريس قائلاً: «إن كلَّ الراسخين لتعاليمِك مخدوعون، لأنه لا معلم غير المسيح وحده»، واستشهد حسب جهالته قائلاً إن المخلص نفسه قد جزم قائلاً لا تدعوا لكم معلماً على الأرضِ. وأظلمَ عقلُه لتعجرفِه، فانحطَّ انحطاطاً يُرثى له، حتى أنه غُلَّ بالحديد. ولقد كان كثيرون يتحدثون بشدةِ نسكِه، وقال قومٌ إنه كان يصوم ثلاثة أشهر لا يأكل فيها إلا ما كان يتناوله من القربانِ في يومِ الأحد مع ما يتفق له مِن الحشائش البرية. ولقد كانت لي أنا به خبرةٌ مع ألبيانوس الطوباوي، ففي وقتٍ من الأوقاتِ مضينا إلى الإسقيط وكان بيننا وبين الإسقيط أربعين مرحلةً، أكلنا فيها دفعتين وشربنا ماءً ثلاثة أيام وهو لم يذق فيها شيئاً، بل كان يتلو محفوظاته وما كنا نلحقه ماشياً. وهكذا ضبطه العدو أخيراً لما اقتنع برأيهِ وفي عروض ذلك أمسكته حمى محرقةٌ فما أمكنه الجلوس في القلايةِ، فمضى إلى الإسكندريةِ ولعل ذلك كان بسياسةٍ إلهيةٍ كما قال: دفع مسماراً بمسمارٍ. لأنه أسلم ذاتَه باختيارِه لعدم الإفراز، فوجد فيما بعد خلاصاً غيَر طوعي، فصار يحضر المشاهد وطرد الخيل، ومن كثرةِ أكلهِ وغرامهِ بشربِ النبيذ مال جداً لمحبةِ النساءِ، ولما شارف الوقوع في تلك البئرِ، حدث له، ولعله بسياسةٍ إلهية، أن مرض في عضوِ تناسلهِ مدة ستة أشهر حتى أن تلك الأعضاء تهرأت وسقطت منها وبها، وفيما بعد برئ وعاد عادماً تلك الأعضاء، فانتبه وذكر السيرة السمائية واعترف بجميعِ ما عرض له للآباءِ القديسين، ولم يفسح له الأجل فتنيح بعد أيامٍ قلائل.
وآخر اسمه أبطلما، عاش عيشةً يعسُر وصفُها، هذا أولُ أمرهِ سكن فوق الإسقيط في الموضع المعروف بالمفارج، وهو مكانٌ لم يسكنه قط ساكنٌ من الآباءِ، وكان بينه وبين الماءِ ثماني عشرة مسافة، واتخذ لنفسِه جرةً ولقَّانين (وعاءين) وكان يجمع الندى بإسفنجٍ من على الصخورِ في شهريْ كانون الأول وكانون الثاني ويعصره في تلك الأوعيةِ ويرفعه للصيفِ، ومكث على تلك الحال خمسَ عشرةَ سنةً لا يكلم أحداً، وتغرََّب من ملاقاةِ رجالٍ أبرارٍ ومخاطبتهم، وعَدِمَ التعليمَ الروحاني والتناولَ من الأسرارِ الطاهرة، فجعل يبحث عن حقائقِ الأمورِ وغوامضها، فجُنَّ، وصار يقول: «إن الأشياءَ ليس له مدبرٌ وإنها موجودةٌ مدبَّرةٌ منها وبها، فلأيِّ شيءٍ أُشقي نفسي، وأيُّ ثوابٍ يكونُ لمن يبلغ إلى هذا التعبِ»؟ فلما أجال في فكرهِ هذه الأفكار تَوَسْوَسَ وضاع عقلُه، فنزل إلى مصرَ، وهكذا أخذ يدور من مكانٍ إلى مكانٍ ليلاً ونهاراً مطرِقاً إلى أسفل وهو لا يحادث أحداً، وكان منظرهُ يُرثى له، كما كان كلُّ واحدٍ من النصارى يراه يبكي عليه إذ صار ملهاةً ولعبةً لمن لا يعرفُ سيرتنا، وقد لحقت به هذه المصيبةُ الكبرى لتيهِهِ وصلفِه وظنهِ بنفسِه أنه قد فاق سائرَ الآباءِ ظاناً بنفسِه ما ليس هو فيه، ومن حيث أنه لم يصغِ إلى مشورةِ أحدٍ من الآباءِ فقد هبط هبوطاً فظيعاً ومات أشرَّ ميتةً. ويشبه حالُه حالَ شجرةٍ مورقةٍ وبالأثمارِ مخصبة، ضربتها ريحٌ شديدةٌ فسقطت بغتةً وتعرَّت من أوراقها وأثمارها وبقيت يابسةً، وهذا هو ما يلحقُ بمن يتدبر برأي نفسِه ولا يسمع مشورةَ الحكماءِ.
وجاء كذلك عن بكرٍ كانت بأورشليمَ حبيسةً في قلايةٍ ست سنين لابسةً مسوحاً، هذه تنسَّكت نسكاً زائداً ولم تأكل شيئاً لذيذاً البتة، فمنعها الآباءُ من ذلك لكنها لم تُصغِ إلى مشورةِ أحدٍ، فتعرت من معونةِ الله لعجرفتِها لمَّا أعجبتها نفسها، فتباعد عنها حافظُ عفتِها، وسقطت سقطةً يُستعاذ منها، فقد فتحت بابَ حبسِها وأدخلت إليها إنساناً كان يخدمها وكلفته بمفاسدتها وقد لحقتها هذه المصيبةُ لما جعلت قصدَ نسكِها للمراءاة، ولظنِها أنها صارت أفضلَ من كثيرين، فلما تملكتها الأبهةُ، وقعت في يدِ إبليسِ.
كما أن إنساناً اسمه إبراهيم، كان راهباً قبطياً، هذا عاش في البريةِ عيشةً يعسُر تحريرُها، فلما تَسفَّه أصاب عقلَه مرضُ الكبرياءِ، فجاء إلى البيعةِ مخاصماً القسوس قائلاً: «لقد سامني المسيحُ قسيساً في هذه الليلةِ، فاقبلوني أكهن». فأخرجه الآباءُ من الكنيسةِ وساقوه إلى سيرةٍ أغلظَ من غيرها، فشفوه من ألمِ الكبرياءِ وعرَّفوه ضعفَه، وحققوا له أنَّ شيطانَ العجرفةِ قد تلاهى به. ولقد رأينا أيضاً متوحداً ساكناً مغارة، لعبت به المنامات فعاين هوائيات وطارد خيالات، فضاع عقلُه وفسد قلبُه وسقط من السيرةِ الفاضلةِ، ومات مجنوناً.
وأخٌ آخر جلس في بريةٍ ملآنةً من الشياطين مدةً من الزمانِ، وكان يظن أنهم ملائكةٌ، وكان والده يزوره من حينٍ إلى حينٍ، وفي بعضِ الأيامِ أخذ منه فأساً ليحتطبَ به ويعيده إليه، وحدث في عودته إليه أن سبقَ أحدُ الشياطين وقال له: «إن شيطاناً يشبه أباك آتٍ ومعه فأسٌ في زمبيلِهِ يريد أن يضربَك به»، فلما جاء أبوه حسبَ عادتهِ، أخذ الابنُ الفأسَ وضربه فقتله، وللوقت صرعه الروحُ النجسُ وخنقه.
وفي بعضِ الأوقاتِ جاء إخوةٌ إلى الأب أنطونيوس يخبرونه عن أحلامٍ يرونها ليعلموا هل هي حقيقيةٌ أم من الشياطين، وكان معهم أتانٌ قد مات في الطريقِ. فلما سلَّموا عليه ابتدرهم قائلاً: «كيف كان طريقُكم؟ وكيف مات الأتانُ الصغير»؟ فأجابوه: «مِن أين علمتَ يا أبانا»؟ فقال لهم: «إن الشياطينَ أروني ذلك في الحلمِ». فقالوا له: «ونحن لهذا الأمرِ بعينِهِ جئنا نسألك، لئلا نضلَّ، لأننا نرى أحلاماً ونصدقها مراراً كثيرةً»، فأكد لهم الشيخُ من حالِ الزمان الذي أخبرهم به، أن هذه التخيلات من الشياطين.
وقال أيضاً: «وإنْ تظاهرَ الشياطين بسابقِ المعرفةِ، فلا تَمِل إليهم، لأنهم يخبرون بأشياءٍ كثيرةٍ قبل كونِها بأيامٍ، ليقنعوا الذين يصغون إليهم بصدقِهم، فإذا صدَّقوهم أضلوهم بعد ذلك وأهلكوهم بمداغلتهم واغتيالهم، أما هم – أعني الشياطين – فليس لهم سابق معرفة، لأن عِلمَ الغيبِ لله وحده، وإنما هم سعاةٌ خفيفون مسرعون في الهواء، والذي يرونه يسبقون وينذرون به، فاطلبوا من الله ليؤازركم على دحضهم، ومتى طرقوكم ليلاً على أنهم ملائكةٌ، لا تصدقوهم لأنهم كذبةٌ».
وقال أيضاً – أعني القديس أنطونيوس: «إذا ما بدأ الإنسانُ في المجيء من بلدةٍ بعيدةٍ، فعندما يراه الشياطين هكذا، يسبقون وينذرون بمجيئهِ قبل أن يجيء، وقد يتفق مراراً كثيرةً أن ذلك الإنسانَ يُعاق أو يرجع لعارضٍ ما، فيظهر كذبُ الشياطين، وهكذا يَهْذُون عن ماءِ النيل، لأنهم متى عاينوا الأمطارَ الكثيرةَ في بلاد الحبشةِ، يعرفون أن ماءَ النهرِ يكون كثيراً، فيسبقون ويخبرون بذلك. وكما كان ديدبان داود الملك يقف في أعلى موضعٍ فينظرَ ما لم ينظره من كان تحته فيخبر به، هكذا هؤلاء الأرجاس أيضاً يفعلون ذلك ليُضلّوا».
كان إنسانٌ اسمُه دكياس يسكن جبلاً من أعمالِ أورشليمَ، هذا لم يصلِّ مع أحدٍ جملةً، وبغتةً تجاسر على أن يخدمَ القداس وهو علماني.
وآخر سكن طور سيناء، وكان يظن أنه يسلك سلوكاً حسناً، هذا عجرفته الشياطين في المنامات، وتخيل أنه قَبِل شرطونية الأسقفية، فجلس وأخذ يعمل عملَ الأساقفةِ.
من رسالةٍ للقديس سمعان: جميعُ المناظرِ التي يمكن للناس إبانتها في الأجسامِ، إنما هي من تخايل أفكارِ النفسِ وليست من أفعال النعمةِ، لأن من شأنِ هذا الأمرِ أن يتبعَ الرهبانَ الشديدي البحث والفرنسة، محبي العجرفة، الجانحين إلى الكبرياء والأبهة، المتمسكين بالرفيعات، المرائين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق