الثلاثاء، 22 مايو 2012

الأب الكبير الأنبا سرابيون...Big Daddy Abba Serapion




الأب الكبير الأنبا سرابيون
الأب الكبير الأنبا سرابيون
كان هذا القديس من أهلِ مصرَ من الآباء المشهورين بالفضلِ، وكان يُعرف بالسباني، لأنه في كلِّ زمانهِ لم يكن يلبس سوى سبانيةٍ، وهي عبارة عن ثوبٍ من كتانٍ سميك. وما كان يمتلكُ شيئاً البتة حتى ولا عصا ولا حذاء، سوى إنجيلٍ صغير، وكان في أموره يُفضِّل راحةَ قريبهِ على راحةِ نفسهِ، وكان كاملاً في العبادةِ، جيداً في القراءة، يتلو عن ظهرِ قلبٍ كلَّ كتبِ الله. وكان يجولُ في كلِّ البراري والمدن سعياً وراء اقتناءِ الفضائلِ وعملِ الصالحات، بحيث لا يبالي بشيءٍ من أمورِ الدنيا حتى ولا بجسمِه، ولذلك بلغ كافة الفضائل التي أصبحت لديه كأمورٍ طبيعية.
وقيل عنه إنه أراد مرةً الذهاب إلى رومية فأتى إلى البحرِ، وبتدبير الله وجد سفينةً تريد الذهاب إليها، فألقى بنفسِه فيها، ولم يكن معه وقتئذ لا خبز ولا دراهم ولا شيء البتة. فساروا خمسة أيام لم يأكل فيها ولم يشرب، ولا كلَّمه إنسانٌ، ولكنه كان جالساً صامتاً. فظن النواتية أن دوارَ البحرِ منعه عن الأكلِ، أما هو ففي الحقيقةِ لم يمنعه سوى العدم لأنه ما كان لديه شيءٌ البتة. فسألوه: «ما هو أمرك أيها الشيخ فإنك لا تأكل ولا تشرب ولا تتكلم»؟ فقال لهم: «ليس معي طعامٌ ولا دراهم ولذلك فإني صائمٌ، أما صمتي فهذه سُنَّة الرهبان، فإنهم يفضِّلون السكوتَ». فلم يصدقوا أقوالَه وفتشوه، ولما لم يجدوا معه شيئاً تضجروا وانتهروه قائلين: «من أين توافينا بالأجرةِ»؟ فقال لهم الشيخ: «ردُّوني من المكانِ الذي بدأتُ منه الركوب معكم ثم امضوا بعد ذلك بسلامٍ». فقالوا له: «أبعد أن سافرنا خمسةَ أيامٍ تريدنا أن نرجع إلى الوراء فتؤخرنا بذلك عشرة أيام دون أن نتقدم، كما أننا لا نعلم إن كانت الرياحُ توافقنا كما الآن أم لا، لأننا قطعنا مسافةً طويلةً لطيبِ الريحِ الذي لم نرَ مثلَه قط». ولم يعلم القومُ أن الله سهَّل طريقَهم من أجلِه. أما هو فقال لهم: «إن لم تردُّوني إلى مكانٍ فهأنذا بين أيديكم لأنه ليس لي ما أعطيكم». وحدث بعد ذلك أنهم تحننوا عليه ورحموه وأطعموه وأولوه جميلاً.
ولما وصلوا إلى رومية، أخذ يجولُ في المدينةِ سائلاً عن حبيسيها وصالحيها ليعرف سيرتهم وكيف حالهم في العبادةِ. فدلُّوه على راهبةٍ حبيسةٍ لها ذِكرٌ فاضلٌ وصلاحٌ طاهرٌ، فأحبَّ أن يعرف سيرتها في رهبانيتها، فذهب إليها. وكانت تلك الحبيسةُ كثيراً ما تُمسك نفسَها عن التكلم مع الناسِ، وكانت لها خادمةٌ عجوز. فقال الشيخُ: «كلِّمي الحبيسةَ أن تكلِّمَني واعلميها بأني حباً في المسيح جئتُ إليها». فقالت له العجوز: «إن الحبيسةَ ليس لها عادةٌ أن تكلم إنساناً، وأبت أن تخبرها. فمكث القديسُ ثلاثةَ أيامٍ وهو لا يفارقُ العجوزَ، فلم يأكل ولم يشرب. فلما شعرت به الحبيسةُ وأبصرت صبرَه رَحَمته، فأشرفت عليه وقالت: «ما الذي يبقيك ها هنا يا أبي وماذا تطلبُ»؟ قال لها: «أحيةٌ أنت أم ميتة». قالت: «أنا حيةٌ بالله وميتةٌ عن العالمِ». فقال لها: «أقائمةٌ أنت أم جالسة»؟ قالت له: «لا يا أبي، بل أنا سائرةٌ». قال لها: «إلى أين تسيرين»؟ قالت: «إلى السيد المسيح». فقال لها القديسُ: «أريدُ أن أتأكدَ صحةَ كلامِك. فإن فعلتِ ما أقولُه لك علمتُ أنك صادقةٌ، اخرجي من حبسِك وانزعي ثيابك وأنا أيضاً أنزع ثيابي ونمشي عراةً الواحد منا خلف الآخر وسط سوق المدينة». فقالت له: «يا أبي، إنَّ لي حتى اليوم خمساً وعشرين سنة وأنا في هذا الحبس، فكيف تطلب مني الآن أن أخرجَ منه وأفعلَ هذه الجهالة»؟ قال لها القديسُ: «ألست تزعمين بأنك قد مُتِّ عن العالم، فالميتُ من أي شيءٍ يرتبك؟ وإن الميتَ عن العالم لا يبالي بهزءِ الناس ولا بمديحهم. من مات عن الدنيا لا يبالي بما يصيبُ جسَده من أجلِ الرب، فحياؤك هذا يدلُّ على أنك لم تموتي بعد عن العالم كما قلتِ، وإنما أنت مخدوعةٌ ولم تنتصري بعد». فقالت له: «إني لم أصِلْ بعد إلى هذه المنزلة التي أخبرتني عنها». فقال لها القديس: «إياك بعد هذا اليوم أن تعتقدي بأنك غلبت الجسدَ ومتِّ عن العالمِ». فقالت له: «لو أننا أتينا هذا الفعلَ أما كانوا يتشككون فينا ويقولون: لولا أن هذين فاسدان لما فعلا ذلك»؟ قال لها القديسُ: «كلَّ ما تصنعينه في سبيلِ الله، لا تبالي بقولِ الناس إزاءه. إن الراهبَ إذا كان يغتمُّ من الشتيمةِ والهوان فقد دلَّ على أنه علمانيٌ لم يترهب بعد». فقالت له: «اغفر لي يا أبي فإني لم أصِل بعد إلى هذه الدرجةِ». فقال لها القديس: «اتضعي في فكرك وإياك والعظمة»، ثم انصرف.
وحدث مرةً أن عبر الأب سرابيون على قريةٍ من أعمالِ مصر، فنظر امرأةً زانيةً قائمةً على بابِ الماخور. فقال لها الشيخُ: «انتظريني عشيةً لأني عازمٌ على المجيءِ إليك لأقضي هذه الليلة بقربك». فأجابته: «حسناً يا راهب حسناً». وإنها استعدت وفرشت السرير. فلما كان المساء أتى إليها وقال: «هل أعددتِ المرقد حسناً»؟ فقالت: «نعم يا راهب». فلما أغلقت البابَ قال لها: «تمهلي قليلاً لأن لنا سُنةً لا بدّ أن أعملها أولاً»، وابتدأ من أول الابصالتس مرتلاً، وفي نهايةِ كلِّ مزمورٍ كان يقول: «يا ربُّ ارحم هذه الشقيةَ وردّها للتوبةِ لتخلص». فسمع الربُّ وخشَّع قلبها وكانت قائمةً إلى جانبهِ مرتعدةً، ولفزعِها سقطت على الأرضِ. فلما أكمل الشيخُ الابصالتس أجمع، أقامها. فعلمت أنه جاء ليخلِّص نفسها. فطلبت إليه قائلة: «اصنع محبةً يا أبي وأوجد لي موضعاً تضعني فيه لأرضي إلهي وأرشدني كيف أخلص». فأخذها الشيخُ إلى دير عذارى وسلَّمها للرئيسةِ وقال لها: «اقبلي هذه الأخت وافسحي لها المجالَ لتتدبر كما تشاء»، فقبلتها. ولما مكثت أياماً يسيرةً قالت: «أنا امرأةٌ خاطئةٌ والواجب عليَّ أن آكلَ في كلِّ يومين مرةً واحدةً». وبعد أيامٍ قلائل قالت: «إني فعلتُ خطايا كثيرة والواجب عليَّ أن آكل كلَّ أربعةِ أيامٍ مرةً». وبعد أيامٍ أخرى قالت: «إن خطاياي كثيرةٌ جداً فالواجب عليَّ أن آكل كلَّ أسبوعٍ مرةً». وبعد ذلك طلبت من الرئيسةِ فجعلتها في قلايةٍ صغيرةٍ وسدَّت بابَها عليها. وكانوا يناولونها طعامَها وشغلَ يديها من طاقةٍ. وهكذا أرضت اللهَ هناك بقية حياتها.
ومرةً سأله أخٌ قائلاً: «قل لي كلمةً». فقال الشيخُ: «وماذا تريدُ بسماعِ الكلمة وقد أخذت قوتَ الفقراء وتركته في هذه الكوةِ». وذلك لأنه أبصرها مملوءةً كتباً.
وحدث أن زاره أخٌ، فطلب منه الشيخُ أن يصليَ كما هي العادة، فاعتذر قائلاً: «إني خاطئٌ لا أستحق ولا لإسكيم الرهبنةِ». فأراد الشيخُ أن يغسلَ رجليه فأبى ولم يدعه واعتذر بمثلِ هذا الكلام وقال: «إني خاطئٌ ولستُ مستحقاً». ثم إن الشيخَ هيأ طعاماً، فلما جلسا يأكلان أخذ الشيخُ يعظه بمحبةٍ ويقول له: «يا ابني إن كنتَ تريد أن تنتفع فاجلس في قلايتك، واترك عنك الدوران، واجعل اهتمامك في نفسِك وفي عملِ يديك، فإنك لا تنتفع من الجولان مثلما تنتفع من الجلوس في قلايتك». فلما سمع الأخُ ذلك الكلام وهذه العظة، تململ وتغير وجهُه، حتى أن الشيخَ لاحظ ذلك في وجهِه. فقال له الشيخُ: «بينما أنت تقول إني خاطئٌ وتصف نفسَك أنك لستَ أهلاً أن تحيا في هذه الدنيا، فإذا بي لما عاتبتُك بمحبةٍ أراك قد تململتَ وتلون وجهُك حتى صرتَ مثل السبعِ. إن كنتَ بالحقيقةِ تريدُ أن تكونَ متضعاً فاحتمل ما يأتيك من الاغتمامِ من الآخرين، ولا تلُم نفسَك ملامةً باطلةً بالرياءِ وبالكلامِ الباطلِ». فلما سمع الأخُ هذا الكلام انتفع به وصنع مطانية قائلاً: «اغفر لي». ورجع إلى قلايته.
ومرةً مضى أنبا سرابيون إلى الإسكندرية فوجد هناك إنساناً مسكيناً عرياناً في السوق، فوقف يحدِّث نفسَه قائلاً: «كيف وأنا الذي يُقال عني إني راهبٌ صبور عمّال، أكون لابساً ثوباً، وهذا المسكين عريان، حقاً إن هذا هو المسيح والبردُ يؤلمه». وإنه وثب بقلبٍ شجاعٍ وتعرى من الثوبِ الذي كان يلبسه وأعطاه لذلك المسكين. ثم جلس عرياناً والإنجيل في يده. واتفق أن كان البرخس (أي المحتسب) مجتازاً. فلما أبصره عرياناً قال له: «يا أنبا سرابيون من عرّاك»؟ فأشار إلى الإنجيلِ وقال: «هذا هو الذي عرَّاني». فبعد أن كسوه قام من هناك، فوجد إنساناً عليه دين وهو مُعتقَل من صاحبِ الدين. وحيث لم يكن لديه شيءٌ يوفيه عنه، باعَ الإنجيلَ ودفع ثمنَه للدائنِ. ولما كان ماشياً قابله في الطريقِ إنسانٌ يستعطي، فأعطاه الثوبَ وجاء عرياناً. فدخل قلايته، فلما أبصره تلميذُه هكذا قال له: «يا معلم أين الثوب الذي كنتَ تلبسه»؟ أجابه قائلاً: «لقد قدمتُه يا ولدي قدامنا حيث نحتاجه». فقال له أيضاً: «وأين إنجيلُك يا أبتاه الذي كنا نتعزى به»؟ قال له: «يا ولدي لقد كان يقول لي كلَّ يومٍ: بع كلَّ ما لَكَ وأعطهِ للمساكين».
كان بمصر إنسانٌ وله ولدٌ مقعدٌ، فحمله إلى أنبا سرابيون وتركه عند باب قلايتهِ وابتعد عنه قليلاً مترقِّباً. فبكى الولدُ، فلما سمع الشيخُ صوتَ بكائِه خرج وقال له: «من جاء بك إلى ها هنا»؟ فقال له: «أبي». قال له: «وأين هو»؟ قال: «تركني ومضى». فقال له: «قم اجرِ والحق به». فقام وجرى ولحقه، فأخذه أبوه إلى منزلهِ وهو يمجدُ اللهَ.
وحدث أيضاً أن كان لإنسانٍ ولدٌ، ومات هذا الولد، فأخذه إلى الشيخِ ووضعه قدامه على وجهِه، وضرب مطانية وتراجع قليلاً، ولم يعرف الشيخُ أن الصبي ميتٌ، وظن أنه ساجدٌ له، وانتظر ليقوم فلم يقم. فقال له: «قم يا ولدي الربُّ يبارك عليك». فقام الصبي حياً، فأخذه أبوه وعاد إلى بيتهِ شاكراً لله ولقديسيه.
وحدث مرةً أن أتوا بإنسانٍ إلى الكنيسةِ وكان قد اعتراه جنونٌ (بروحٍ نجس) وصلُّوا عليه فلم يخرج لأنه كان صعباً. فقال الكهنةُ: «ما الذي نعمله بهذا الروح لأنه لا يستطيع أحدٌ منا أن يخرجه إلا الأنبا سرابيون. وإن نحن أعلمناه وسألناه، امتنع من المجيء إلى الكنيسة. فلنجعل هذا الرجلَ المعذَّب راقداً في الموضع الذي يقف فيه ليصلي، فعند دخوله نقول له يا أننا سرابيون أيقظ هذا الرجل الراقد في البيعةِ». ففعلوا كذلك. إذ أنه لما دخل الشيخ ووقفوا للصلاةِ، قالوا له: «أيها الشيخ: أيقِظ هذا الرجلَ الراقد». فقال له: «قم». وللوقت نهض معافى بكلمةِ الشيخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق