الاثنين، 21 مايو 2012

من أقوال الأب الروحاني المعروف بالشيخ «تعليم للمبتدئين» 5


من أقوال الأب الروحاني المعروف بالشيخ
«تعليم للمبتدئين» 5
 
سأل أخٌ شيخاً: «لماذا أضجر في قلايتي؟»، فقال له: «ذلك لأنك لم تحس بعد بنعيمِ القديسين وعذابِ الخطاة، ولو عرفتَ ذلك لصرتَ بلا ضجرٍ حتى ولو كنتَ منغمساً في الدودِ والنتِن في قلايتك لحد حلقك، لأن قوماً بسببِ ضجرِهم يتمنون الموتَ، ولا يعلمون شدةَ الصعوبةِ عند ملاقاة الله مع خروجِ القضيةِ اللازمةِ عليهم، وشدة العقوبةِ الحالةِ بالخطاةِ».
قال راهبٌ لشيخٍ: «لي ثلاثونَ سنةً لم آكل لحماً». فأجابه الشيخُ: «وهل لك ثلاثون سنةً لم تخرج من فمِك لعنةٌ، تلك التي نهانا اللهُ عنها؟». فلما سمع الأخُ ذلك قال: «بالحقيقةِ هذه هي العبادة المرضية لله».
قال القديس مكسيموس: «من غلبَ الحنجرةَ فقد غلبَ كلَّ الأوجاعِ، ومن أحكمَ الاتضاعَ، فقد أحكم كلَّ الفضائلِ».
قال أنبا إشعياء: «ينبغي للراهبِ أن يقتني له مخافةَ اللهِ، وما دامت ليست فيه مخافةُ اللهِ، فهو بعيدٌ من رحمةِ اللهِ، فإذا كان يميلُ إلى الخطيةِ ويستأنس بها، فليعلم أن مخافةَ اللهِ ليست فيه».
قال أنبا بيمين: «الإنسانُ يحتاج إلى خوف الله كمثل احتياجه إلى نسمته ليتنفسَ بها».
قال إقليمس: «من لا يجد في نفسِه خوفَ اللهِ، فليعلم أن نفسَه ميتةٌ».
قال مكسيموس: «الخوفُ الإلهي هو غايةِ اهتمام الإنسانِ بأن لا يقعَ في عقوبةِ الآخرةِ بسببِ خطاياه».
سأل أخٌ شيخاً: «يا أبي إني أشتهي أن أحفظَ قلبي». فقال له الشيخُ: «كيف يمكنك أن تحفظَ قلبَكَ، وفمُكَ، الذي هو بابُ القلبِ، مفتوحٌ سائبٌ».
كذلك سأل أخٌ شيخاً: «كيف يخلص الإنسانُ؟»، فقال له: «يخلص الإنسانُ بالاتضاعِ، لأنه كلما وضع الإنسانُ نفسَه إلى أسفل، ارتفع إلى فوق ومشى إلى قدام».
قال شيخٌ: «لا يوجد أنتن من الإنسانِ الخاطئ، لا الخنزير ولا الكلب ولا الضبع، لأن هذه بهائمٌ وقد حفظت رتبتها، أما الإنسانُ الذي خُلق على صورةِ الله ومثالِه، فإنه لم يحفظ طقسَه. فالويل للنفس التي اعتادت الخطيةَ، فإنها مثل الكلبِ الذي اعتاد زهومات الجزارين، وقاذوراتهم، فهو يُضرب ويُطرد، فإذا تخلى قليلاً، عاد ثانيةً إلى الزهوماتِ، ولا يزال كذلك حتى يُقتل».
قال القديس إبيفانيوس عند خروجِ نفسِه: «لا تحبوا متاعَ الدنيا فتستريحون وتفرحون في الآخرةِ، تحفَّظوا من لذَّات العالمِ، فلا يقوى عليكم وجعُ الشيطانِ، تحفَّظوا بأفكارِكم، لأنه ربما يكون الجسدُ هادئاً ولكن الأفكارَ تهتم بالأمورِ الباطلةِ. أيقظوا قلوبَكم بذِكرِ الله، فتخف قتالاتُ الأعداءِ عنكم».
قال شيخٌ: «ليست الحاجةُ إلى كثرةِ الكلامِ، لأن كثرةَ الكلامِ غريزةٌ في الناسِ، وإنما الحاجةُ ماسةٌ إلى العملِ».
وقال آخر: «إذا كان للراهبِ كلامٌ بغيرِ عملٍ، فإنه يشبه شجرةً مورقةً لا ثمرَ فيها، أما من له كلامٌ وعملٌ، فهو مثلُ شجرةٍ مورقةٍ مثمرةٍ».
أبصر شيخٌ أحدَ الإخوةِ يضحك، فقال له: «لا تضحك يا أخي: وإلا بعدت عنك الطوبى التي أعطاها الربُّ للحزانى».
سأل أخٌ شيخاً: «كيف أخلص؟»، فقال له الشيخُ: «هو ذا أنا مصورٌ لك دِين اللهِ، وأريك إياه: أنت تقول ارحمني، فيقول لك ارحم أخاك وأنا أرحمك؛ وإن قلتَ له اغفر لي، يقول لك اغفر لأخيك وأن أغفرَ لك؛ ألست ترى أن العلةَ هي منا؟».
قال شيخٌ: «سمجٌ هو بالراهبِ إن شتمه أخوه أو أهانه ألا يكون تاماً في محبتهِ له قبل أن يلقاه».
سأل أخٌ الأنبا مقاريوس الكبير قائلاً: «قل لي كلمةً للمنفعةِ»، قال له: «اجلس في قلايتك، ولا تكن بينك وبين أحدٍ خلطةٌ، وابكِ على خطاياك، وأنت تخلص».
قال شيخٌ: «أرفعُ الصلاحِ كلِّه أن يمسكَ الإنسانُ بطنه ولسانه».
وقال آخر: «احرص أن تقلعَ هذا العشبَ الذي هو التواني، قبل أن يصيرَ غابةً».
في أثناءِ جهادِ الأسقف أنبا كيرادوس لما كان يُعذَّب على اسمِ المسيحِ، قال مثلاً: «إن الأرضَ التي تُشقَّق بالسكةِ، وتقلَّع بالمحراثِ، تثمر ثمراً مضاعفاً، كذلك الجسدُ إذا انكسر وانحل بالتعبِ، حينئذ ينبت للنفسِ أجنحةٌ، وتتعالى إلى المسيحِ الذي قُتل من أجلها، وهي حاملةٌ ثمرَهُ مائة ضعف».
قال أحدُ القديسين: «النفس تشتهي أن تخلصَ، إلا أنها مشتبكةٌ بالأشياء الباطلةِ، وعند اشتغالها بالأمور الدنياوية، يصعب عليها تعبُ الآخرة، حتى أنها لا تقدرُ حتى على أن تُصلِّب على وجهها بغيِر طياشةٍ. فصلاة كهذه، ليست لها قوةٌ فعالةٌ، ولكنها قد صارت عادةً».
قال أنبا أوغريس: «مهما أراده الإنسانُ، بلا شك يشتهيه، وما يشتهيه، يجهد نفسَه حتى يقتنيه. فإذا اقتناه، فقد أكمل الشهوةَ، وإذا أكمل الشهوةَ فقد أرضى جميعَ حواسِه ولذذها، وكلُّ من ليست فيه شهوةٌ حسنةٌ، فهو جرنٌ للأوجاعِ».
قيل عن تلميذٍ كان مع أبيه في زمانِ قتلِ المؤمنين، فأراد أبوه هذا أن يُجرِّبَ فكرَه، فقال له: «يا ابني لعلك تشاء أن تصيرَ شهيداً فاذهب». وكان الأخُ يهوى ذلك، ولكنه لم يُطع هواه فيذهب، بل قال للشيخِ: «يا أبي، حتى ولو صرتُ فوق رتبةِ الشهداءِ، لكن بركتَك لي كلَّ يوم أفضل». فلما نظر الله إيمانَه في شيخهِ، جعل صوتاً يقول له: «لأجل إيمانِك في أبيك، ها أنا أحسبُك في مجمعِ الشهداء وطقسِ القديسين».
سأل أخٌ شيخاً: «يا أبي، إن لي خمساً وعشرين سنةً أخدمُ فيها شيخاً، ولكنه قد ثقُل عليَّ الآن، لذلك فإني أريدُ أن أتركَه». فقال له الشيخُ: «هو ذا قد صار لك خمسٌ وعشرون سنةً تحت شجرةِ الحياةِ، وأنت تأكل من ثمرِها، وتريد الآن أن تأكلَ من الزوانِ، إذا كنتَ تريد ترك الشيخ. لأن شجرةَ الحياة التي بها تعيش، هي كلمةُ اللهِ التي تسمعها من أبيك، والزوان هو أفكارُ إبليس، تلك التي إذا قبلتها، تجعلك غريباً من شجرةِ الحياةِ».
قيل عن أخٍ: إنه كان تحت طاعةِ شيخٍ، فأقام ثمانيَ وعشرينَ سنةً يخدمه ولم يُغضبه يوماً واحداً ولا عصي له أمراً. وأخيراً، تدبَّر له إبليس في ضميرٍ رديء وقال له: «إن أباك خاطئٌ، ولن تخلصَ على يديه». فلما أقنعه، مضى وسكن في قلايةٍ وحده. وفي كمالِ ثلاثة أيامٍ مات وأخذوه إلى العذابِ، فسأل الشيخُ اللهَ من أجلِهِ، إن كان قد وجدَ رحمةً أم لا، فعرف بواسطةِ ملاكٍ أنه قد أُلقيَ في العذابِ، فسأل الشيخُ اللهَ قائلاً: «يا سيدي، لا تضيع تعبي فيه من أجلِ هذه الثلاثة أيامٍ». فقال له الملاكُ: «إن هذه الثماني والعشرين سنة التي خدمك فيها، كان يؤمن بك فيها، ولكنه الآن أطاع الشيطانَ وافترق منك وأقامَ هذه الثلاثة أيام معادياً لك في قلبهِ، فلما أخذه اللهُ، أصاب العداوةَ فيه، من أجلِ هذا، ألقاه في العذابِ».
قال أنبا مقاريوس: «نفسُ الإنسانِ غير الكامل في الفضائلِ نجدها نقيةً كالشمسِ من قبل أن تلحقه كلمةٌ رديئةٌ، فإذا سمع كلمةً رديئةً أو نميمةً، للوقت تغطي الشياطين على عقلِه، وتحجب عنه النورَ، وتصيِّره شقياً، بسبب أن نفسَه متزعزعةٌ، وفضائلَه ناقصةٌ».
قال أنبا أبرام: ساعةُ الموتِ مرهوبةٌ، وهي تأتي على الإنسانِ مثل الفخِ، حينئذ يلحق النفسَ ندمٌ عظيمٌ، وتقول: «كيف جُزتُ أيامي وأنا مشغولةٌ بالأعمالِ الفارغة التي لا منفعةَ فيها»؟
قال أنبا بيمين: «إذا أخذ الإنسانُ حيةً ووضعها في قارورةٍ، وغطى فمها، فإنها تموتُ، هكذا الأفكارُ الرديئةُ، إذا قامت على الإنسانِ فالصبرُ والجهادُ يهلكانها».
أخان ذهبا إلى مدينةٍ ليبيعا شغلَ أيديهما، فلما دخلا المدينةَ، افترقا بعضُهما عن بعضٍ بحيلةٍ من إبليس، فوقع أحدُهما في الخطيةِ، ولما فرغا من شغلِهما، التقيا، فقال الذي لم يخطئ للآخرِ: «هيا بنا نمضي إلى الديرِ»، فقال ذاك: «لستُ أريدُ المضي الآن». فلما سمع أخوه ذلك انزعج وقال له: «لماذا لا تريد المضي الآن؟»، فأجابه: «إني لما افترقتُ عنك وقعتُ في الخطيةِ». فأراد أخوه أن يربحَ نفسَه، فقال له: «أما أنت فلم تبقَ عليك خطيةٌ لأنك اعترفت بخطيئتك، وأما أنا، فإني وقعتُ في الخطيةِ، ومن عظمِ الكبرياءِ، امتنعتُ عن أن أقولَ لك، ولكن امضِ بنا إلى الديرِ لنطلبَ التوبةَ». فأتيا إلى الديرِ ومضيا إلى الشيوخِ، وأعلماهم بما أصابهما، وطلبا التوبةَ، فوُضع عليهما قانونٌ متعبٌ، وكان الأخُ الذي لم يخطئ، يصنع القانونَ ويقول: «هذا التعب ليس لي فيه شيءٌ، بل احسبه يا ربُّ بدلاً من خطيةِ أخي». فلما نظرَ اللهُ محبتَه، وما يقاسيه من التعبِ عنه، كشفَ لأحدِ الشيوخِ أمرهما، وقيل له في الرؤيا: «من أجلِ محبةِ الأخِ الذي لم يخطئ، غفر اللهُ للذي أخطأ».
عُملت في بعضِ القلالي أغابي، وتفسيرُها المحبة، وتقال بلغة القبط إفراشي، وتفسيرها الفرح، وجلسوا يأكلونَ، وكان بينهم أخٌ لا يأكلُ طبيخاً، فقال أحدُ الإخوةِ للخادمِ: «إنَّ ههنا أخاً لا يأكلُ طبيخاً قط، وهو يريدُ قليلاً من الماءِ والملح». فرفع الخادمُ صوتَه ونادى خادماً آخرَ وقال له: «إن الأخَ فلان لا يأكلُ طبيخاً، فأحضر له قليلاً من الماءِ والملح». فقام أحدُ الشيوخِ عن المائدةِ وقال له: «لقد كان خيرٌ لك لو جلستَ في قلايتك وأكلتَ لحماً، من أن تَصدر عنك هذه القضيةَ هكذا على رؤوس الملأ».
قال أحدُ الإخوةِ لقومٍ من الرهبانِ: «هل رأيتم قط أكذَبَ من شقوتي؟»، قالوا: «وما السبب؟»، قال لهم: «إذا أنا وقفتُ أصلي فإني أرفعُ يدي ونظري إلى فوق وأبكي وأقول إنه يسمعَ الطلبةَ ويرحم البكاءَ؛ وفي الوقتِ الذي أخطئ فيه، أقول: إنه لا يراني، وبهذا السببِ نَبَتَ عندي كذبٌ نفسي».
كان لأحدِ المتوحدين في البريةِ خديمٌ علماني يبيع له عملَ يديه، ويُحضر له ما يحتاجه، وكان في المدينةِ بالقربِ منه رجلٌ غنيٌ جداً، ولكنه كان مذمومَ الطريقِ، قليلَ الرحمةِ. وفي أحدِ الأيامِ، سار العلماني إلى المدينةِ كعادتِه ليبيعَ شُغلَ المتوحدِ، فوجدَ جنازةً عظيمةً، والأسقف يتقدمها، وجماعةُ الكهنةِ وكلُّ أهلِ المدينةِ، فاستخبرَ عن ميتِ تلك الجنازةِ، فقيل له إنه فلان الغني كبيرُ المدينةِ، فمشى مع الجنازةِ إلى القبرِ، وكان معهم شموعٌ وبخورٌ بكمياتٍ كبيرةٍ، فعجب لذلك. وبعد أن رجع، أخذ حاجةَ المتوحدِ ومضى إليه، فوجده ملقىً على وجههِ ميتاً، والضبعة تجرُّه من رجليه، فبكى بكاءً مراً، وألقى بنفسِه على الأرضِ وقال: «إني لن أقومَ حتى تعرِّفني هذا الحكمَ، فذلك الغني القليل الرحمةِ، كان له كلُّ ذلك المجدِ والكرامةِ في موتِه، وهذا المتوحدُ الذي لم يزل متعبداً لك ليلاً ونهاراً، تخرجه هذه الضبعةُ هكذا وتجرُّه من رجليه»؟! وفيما هو يقولُ ذلك، ظهر له ملاكٌ قائلاً: «ومن أنت حتى تعارضَ الربَّ وتُعيبَ حكمَه، ولكن لأجلِ تعبك مع هذا المتوحد القديس، وخدمتك له، ها أنا أعرِّفك السببَ. إنَّ ذلك الغني مع قلةِ خيرِهِ، وقلةِ رحمتهِ، فقد عَمِلَ في عمرِهِ كلِّه حسنةً واحدةً مع الأسقفِ، والربُّ ليس بظالمٍ، فأراد أن يعوِّضه عنها في هذه الدنيا، حتى لا يكون له عنده شيءٌ؛ أما هذا المتوحد القديس، فقد كانت له زَلَّةٌ صغيرةٌ، صنعها في كلِّ عمرِهِ، فجوزي عنها ههنا بهذه الميتة، حتى يكونَ قدام اللهِ نقياً»، فنهضَ الرجلُ شاكراً اللهَ، قائلاً: «عادلةٌ هي أحكامك».
من أقوالِ مار أفرام: يا أخي تفكَّر بأنَّ ربواتَ الأقوال نهايتها السكوت، محبُ السكوتِ لا يتألم بشيءٍ من أمورِ الدنيا. أحب الناسَ يا من لا يحبُّ شيئاً لما هو للناسِ. أيها الحبيب اتخذ الصمتَ، فإنه يريحك من أدناسٍ كثيرةٍ، اقطع بحكمةٍ الأحاديثَ الضارةَ، ليكون الإنسانُ الباطن حسناً. إذا رأيتَ نفسَك منصدة عن الأقوال الإلهيةِ، متهاونةً بالمواعظِ الروحانيةِ، وتحب الخلطةَ ومحادثةَ الناسِ، فاعلم أن نفسَك قد سقطت في مرضٍ رديءٍ، فاحرص أن تجعل حديثَك مع الربِّ وحده، اسقِ نفسَك المياه الإلهية فتزهر، وتثمر ثمرَ العدلِ.
بدءُ الصالحات وكمالها هو حدُّ الاتضاعِ بمعرفةٍ حقيقيةٍ، لأن المعرفةَ مقترنةٌ بالمتواضع، الإنسانُ مصنَّفٌ من نفسٍ وجسدٍ، إن لم يستعمل الجسدُ خبزاً فلن يعيشَ، كذلك النفسُ إن لم تتغذَّ بالصلاةِ والمعرفةِ الروحانيةِ، فهي مائتةٌ.
إذا ضُربَ البوقُ يستعدُ الجيشُ للحربِ، ولكن في أوانِ الجهادِ، لا يكونُ الكلُّ محاربين، كثيرون رهبانٌ بزيهم، وقليلون هم المجاهدون. في وقتِ التجربةِ يظهرُ تدريبُ الراهبِ وخبرته. الطبيبُ الحاذقُ، من تجربةِ الآلام صار مدرَّباً. يا أخي في كافةِ أعمالِك تذكَّر أواخرك فلا تخطئ أبداً.
من يُكثر أقوالَه، يُكثر لنفسِه الخصومات والبغضاء، ومن يحفظ فمَه يُحَبُّ. إن أحببتَ الصمتَ، ستقطعُ سفينةُ حياتِك مسيرَها بسكوتٍ. إن تهاونتَ بالأشياءِ الباليةِ، تنال الأشياءَ التي لا تبلى. ليكن عقلُنا إلى فوق، لأننا بعد مدةٍ يسيرةٍ ننصرفُ من ههنا، فالأشياءُ التي جمعناها، لمن تكون؟ بغير طينٍ لا يُبنى البرجُ، وبغيرِ معرفةٍ لا تقومُ فضيلةٌ. مَسكُ البطنِ وصيانةُ اللسانِ، ولجامُ العينين، هي طهارةٌ للجسدِ. فإن أمسكتَ بطنَك، وصُنتَ لسانَك، ولم تحفظ ناظريْكَ ألاَّ يطمحا، فلستَ ممسكاً بالطهارةِ بالكاملِ. بمقدارِ ما للتواني من مضارٍ، بمقدارِ ما للتيقظِ من منافع تسبب كلَّ صلاحٍ، لأن المتيقظَ في كلِّ حينٍ، ذِكرُ اللهِ حاضرٌ عنده، وحيثما يتلو ذِكرَ الله، تكفُّ كلُّ أفعالِ الخبيثِ.
مثلُ الماءِ للسمكِ، هكذا السكوتُ للراهبِ، بتواضعِ لبٍّ ومحبةٍ. ومن يشاءُ أن يعيشَ في كلِّ موضعٍ عيشةً سلاميةً، فلا يطلب نياحَه، بل نياحَ رفيقِه بالربِّ، فيجدَ النياحَ. إن شئتَ ألا تخطئَ، احفظ مخافةَ اللهِ. ليخطر ببالِك أن القديسينَ كلَّهم بمكابدةِ الآلام، أرضوا اللهَ. لأن الأحزانَ والمحن هي موافقةٌ للإنسانِ، لأنها تجعلُ النفسَ مختبرةً وصلبةً منتظرةً بإيمانٍ لا ارتيابَ فيه، الفداءَ من لدن المسيح ورحمته. الراهبُ العاجزُ لا ينفعُ لا لذاتِه، ولا لقريبهِ، وغيرُ العاجزِ يستنهضُ المتوانين جداً إلى الفضيلةِ.
تفهَّم يا أخي أنَّ من أجلِك أَقبلَ من السماء الإلهُ الأعلى والأقدس، ليرفعكَ من الأرضِ إلى السماءِ. مغبوطٌ في ذلك اليومِ، الذي قد حرص من ههنا، كي يوجَدَ مستحقاً لتلك السعادةِ، وإذ أنه لا يمكن أن تُباعَ الأدويةُ السماويةُ والقدسيةُ، لأن ما لها ثمنٌ، ولكن بالدموعِ توهبُ للكلِّ. تُرى مَن لا يعجب ومن لا يُذهل، من لا يبارك كثرةَ تحننِك أيها المخلص لنفوسِنا، لأنك ارتضيتَ أن تأخذَ الدموعَ عوض أشفيتك، فيا لقوةِ الدموعِ! إلى أين بلغتِ؟! حتى إنكِ تدخلين إلى السماءِ بمجاهرةٍ كثيرةٍ بلا مانعٍ، وتأخذين طلباتك من الإله الأقدسِ.
يا أخي، أحضر إلى ذهنِك النارَ التي لا تُطفأ والدودَ الذي لا يموت، ففي الحالِ يَخمُد التهابُ الأعضاءِ، لئلا تسترخي وتُغلب، وتدركك نارُ حزنِ الندامةِ، وتعتادَ أن تخطئَ فتندم. اقتنِ صرامةً منذ الابتداءِ مقابل كلِّ شهوةٍ، لئلا تُغلب لها، ولا تتعود الهزيمةَ في الحربِ، لأن العادةَ طبيعةٌ ثانيةٌ، لأن اعتياد الهزيمةِ لا يُبيِّن أن هناك صرامةً وشهامةً، بل كلُّ حينٍ يبني وينقض، وفي كلِّ وقتٍ يُخطئ ويندم. أيها الحبيب، إن اعتدتَ أن تتراخى إن قوتلتَ، فسوف يكونُ تسطيرُ كتابةِ ندامتِك لا يُمحى إلى الأبدِ. من اعتادَ أن يُغلب لبعضِ الشهواتِ، فذاك يصيرُ موبَّخاً كلَّ وقتٍ من ضميرِه، فتحرز بكلِّ نفسِك من الخطرِ، حاوياً في ذاتِك المسيحَ في كلِّ وقتٍ، لأن المسيحَ هو للنفسِ حلاوةٌ لا تموت، فله المجد إلى الأبدِ آمين.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق