الاثنين، 21 مايو 2012

الأنبا موسى الأسود. St. Moses the Black




الأنبا موسى الأسود
الأنبا موسى الأسود
قيل إن الأب الكبير أنبا موسى الأسود قوتل بالزنا قتالاً شديداً في بعضِ الأوقاتِ. فقام ومضى إلى أنبا إيسيذوروس وشكا له حالَه، فقال له: «ارجع إلى قلايتِك». فقال أنبا موسى: «إني لا أستطيعُ يا معلم». فصعد به إلى سطحِ الكنيسةِ وقال له: «انظر إلى الغربِ»، فنظر ورأى شياطين كثيرين يتحفَّزون للحربِ والقتالِ. ثم قال له: «انظر إلى الشرقِ»، فنظر ورأى ملائكةً كثيرين يمجِّدون الله. فقال له: «أولئك الذين رأيتَهم في الغربِ هم محاربونا، أما الذين رأيتَهم في الشرقِ فإنهم معاونونا. ألا نتشجع ونتقوى إذاً ما دام ملائكةُ الله يحاربون عنا»؟ فلما رآهم أنبا موسى فرح وسبَّح الله ورجع إلى قلايتِهِ بدونِ جزعٍ.
وقيل عنه: إنه لما رُسم قساً ألبسوه ثوبَ الخدمةِ الأبيض. فقال له أحدُ الأساقفةِ: «ها أنت قد صرتَ كلَّك أبيضَ يا أنبا موسى». فقال: «أيها الأب، ليت ذلك يكون من داخلٍ كما من خارجٍ».
وأراد رئيسُ الأساقفة أن يمتحِنَه فقال للكهنةِ: «إذا جاء أنبا موسى إلى المذبحِ اطردوه لنسمعَ ماذا يقول». فلما دخل انتهروه وطردوه قائلين له: «اخرج يا حبشي إلى خارج الكنيسةِ». فخرج أنبا موسى وهو يقول: «حسناً فعلوا بك يا رُمادي اللون يا أسودَ الجلدِ. وحيثُ أنك لستَ بإنسانٍ فلماذا تحضرُ مع الناسِ»؟
قيل: أضاف أنبا موسى أخاً فطلب منه كلمةً. فقال له: «امضِ واجلس في قلايتِك والقلايةُ سوف تعلِّمك كلَّ شيءٍ».
وقيل: أخطأ أخٌ في الإسقيط يوماً، فانعقد بسببهِ مجلسٌ لإدانتهِ، وأرسلوا في طلبِ أنبا موسى ليحضرَ. فأبى وامتنع من الحضورِ. فأتاه قسُ المنطقةِ وقال: «إن الآباءَ كلَّهم ينتظرونك». فقام وأخذ كيساً مثقوباً وملأه رملاً وحمله وراء ظهرِهِ وجاء إلى المجلسِ. فلما رآه الآباءُ هكذا قالوا له: «ما هذا أيها الأب»؟ فقال: «هذه خطاياي وراء ظهري تجري دون أن أُبصرَها، وقد جئتُ اليومَ لإدانةِ غيري عن خطاياه». فلما سمعوا ذلك غفروا للأخِ ولم يُحزنوه في شيءٍ.
ومرة أخرى انعقد مجلسٌ وأرادوا أن يمتحنوا أنبا موسى، فنهروه قائلين: «لماذا يأتي هذا النوبي هكذا ويجلس في وسطنِا»؟ فلما سمع ذلك الكلام سكت. وعند انصرافِ المجلس قالوا له: «يا أبانا، لماذا لم تضطرب»؟ فأجابهم قائلاً: «الحق إني اضطربتُ، ولكني لم أتكلم شيئاً».
وحدث مرة أخرى أن أُعلن في الإسقيط أن يُصام أسبوعٌ. وتصادف وقتئذ أن زار الأنبا موسى إخوةٌ مصريون. فأصلح لهم طبيخاً يسيراً. فلما أبصر القاطنون بجوارِه الدخانَ اشتكوا لخدامِ المذبحِ قائلين: «هو ذا موسى قد حلَّ الوصيةَ إذ أعدَّ طبيخاً». فطمأنهم أولئك قائلين: «بمشيئة الربِّ يوم السبت سوف نكلمُه». فلما كان السبتُ وعلموا السببَ قالوا لأنبا موسى أمام  المجمعِ: «أيها الأب موسى، حقاً لقد ضحيْتَ بوصيةِ الناسِ في سبيلِ إتمام وصية اللهِ».
وقيل أيضاً عن أنبا موسى: إنه لما عزم على الإقامةِ في الصخرةِ تعب ساهراً. فقال في نفسِهِ كيف يمكنني أن أجد مياهاً لحاجتي ها هنا. فجاءه صوتٌ يقول له: «ادخل ولا تهتم بشيءٍ»، فدخل. وفي أحدِ الأيام زاره قومٌ من الآباءِ، ولم يكن له وقتئذ سوى جرَّةِ ماءٍ فقط. فأعدَّ عدساً يسيراً، فلما نفذ الماءُ حزن الشيخُ وصار يخرجُ ويدخلُ ثم يخرجُ ويدخلُ وهكذا.. وهو يصلي إلى الله. وإذا بسحابةٍ ممطرةٍ قد جاءت فوق حيث كانت الصخرةُ. وسرعان ما تساقط المطرُ فامتلأت أوعيتُه من الماءِ. فقال له الآباءُ: «لماذا كنتَ تدخلُ وتخرج»؟ فأجابهم وقال: «كنتُ أصلي إلى اللهِ قائلاً: إنك أنت الذي جئتَ بي إلى هذا المكان وليس عندي ماء ليشربَ عبيدُك. وهكذا كنتُ أدخل وأخرج مصلياً لله حتى أرسل لنا الماءَ».
سأل أحدُ الإخوةِ أنبا موسى قائلاً: «ماذا أصنع لكي أمنعَ أمراً يتراءى لي دائماً»؟ فقال له الشيخُ: «إنك إن لم تصبح مقبوراً كالميتِ فلن تستطيع أن تمنعَه، أعني الفكر».
وقال أيضاً: «مكتوبٌ أنه لما قَتل الربُ أبكارَ المصريين لم يكن هناك بيتٌ خالٍ من ميتٍ». فسألوه قائلين: «ما معنى هذا»؟ فقال الشيخُ: «إذا علمنا أننا كلَّنا خطاةٌ فلنحذر من أن نتركَ خطايانا وندينَ خطايا القريب، لأنه من الجهلِ حقاً أن يكون لإنسانٍ في بيتِهِ ميتٌ فيتركه ويذهب ليبكي على ميت جارهِ. فانظر إلى خطاياك أولاً. واقطع اهتمامَك بكلِّ إنسانٍ، ولا تحتكَّ بإنسانٍ، ولا تفكر بشرٍّ على إنسانٍ، ولا تمشِ مع النمام ولا تصدق كلامَ نميمةٍ بخصوص إنسانٍ».
وقال أيضاً: «من يحتمل ظُلماً من أجل الربِّ يُعتبر شهيداً. ومن يتمسكن من أجل الربِّ يعوله الربُّ. ومن يَصِر جاهلاً من أجلِ الربِّ يُحَكِّمه الربُّ».
وأيضاً من أقوالِ أنبا موسى أرسلها إلى أنبا نومين حسب طَلَبهِ: «إني أفضِّلُ خلاصَك بخوفِ الله قبل كلِّ شيء، طالباً أن يجعلَك كاملاً بمرضاتهِ حتى لا يكون تعبُك باطلاً؛ بل يكون مقبولاً من الله لتفرحَ. لأننا نجدُ أن التاجرَ إذا ربحت تجارتُه كَثُرَ سرورُه، وكذلك الذي يتعلَّم صناعةً إذا ما أتقنها كما ينبغي ازداد فرحُه متناسياً التعبَ الذي أصابه، وذلك لأنه قد أتقن الصنعةَ التي رغب فيها. ومن تزوج امرأةً وكانت عفيفةً صائنةً لنفسِها فمن شأنهِ أن يفرحَ قلبُه. ومن نال شرفَ الجنديةِ فمن شأنهِ أن يستهينَ بالموتِ في حربهِ ضد أعداء ملكِه وذلك في سبيلِ مرضاة سيدهِ. وكلُّ واحدٍ من أولئك الناس يفرحُ إذا ما أدرك الهدفَ الذي تعب من أجلهِ. فإذا كان الأمرُ هكذا مع شئونِ هذا العالم الفاني، فكم وكم يكون فرحُ النفسِ التي قد بدأت في خدمةِ الله عندما تُتَمِّمُ خدمتها حسب مرضاة الله؟ الحقَّ أقولُ لك: إن سرورَها يكونُ عظيماً، لأنه في ساعةِ خروجها من الدنيا تلقاها أعمالُها وتفرحُ لها الملائكةُ إذا أبصروها وقد أقبلت سالمةً من سلاطين الظلمة، لأن النفسَ إذا خرجت من جسدِها رافقتها الملائكةُ وحينئذ يلتقي بها أصحابُ الظلمةِ كلُّهم ويمنعونها عن المسير ملتمسين شيئاً لهم فيها. والملائكةُ وقتئذ ليس من شأنِهم أن يحاربوا عنها، لكن أعمالَها التي عملتها هي التي تحفظها وتستر عليها منهم. فإذا تمت غلبتها بأعمالِها تفرحُ الملائكةُ حينئذ ويسبِّحون الله معها حتى تلاقي الربَّ بسرورٍ. وفي تلك الساعة تنسى جميعَ ما انتابها من أتعابٍ في هذا العالم.
فسبيلُنا أيها الحبيب أن نبذلَ قُصارى جهدِنا ونحرص بكلِّ قوتِنا في هذا الزمان القصير على أن نصلحَ أعمالَنا وننقيها من كلِّ الشرور عسانا نخلص بنعمةِ الله من أيدي الشياطين المتحفزين للقائِنا، إذ أنهم يترصَّدون لنا ويفتشون أعمالَنا إن كان لهم فينا شيءٌ من أعمالهِم، لأنهم أشرارٌ وليس فيهم رحمةٌ. فطوبى لكلِّ نفسٍ لا يكون لهم فيها مكانٌ فإنها تفرحُ فرحاً عظيماً. لذلك ينبغي لنا أيها الحبيبُ أن نجتهدَ بقدرِ استطاعتِنا بالدموعِ أمام ربنا ليرحمنا بتحننه. لأن الذين يزرعون بالدموعِ يحصدون بالفرحِ. ولنقتنِ لأنفسِنا الشوقَ إلى الله فإن الاشتياقَ إليه يحفظُنا من الزنا، ولنحبَّ المسكنةَ لنخلُصَ من محبةِ الفضةِ، ولنحبَّ السلامةَ لننجوَ من البغضة، ولنقتنِ الصبرَ وطولَ الروحِ لأن ذلك يحفظُنا من صغرِ النفسِ، ولنحبَّ الكلَّ بمحبةٍ خالصةٍ لنتخلصَ من الغيرةِ والحسدِ، لنلزم الاتضاع في كلِّ أمرٍ وفي كلِّ عملٍ. لنتحمل السبَّ والتعيير لنتخلصَ من الكبرياءِ. لنكرم أقرباءنا في كلِّ الأمورِ لنخلصَ من الدينونةِ. لنرفض شرفَ العالمِ وكراماته لنتخلصَ من المجدِ الباطلِ. لنستعمل اللسانَ في ذِكرِ الله والعدل لنتخلصَ من الكذبِ، لنحبَّ طهارةَ القلبِ والجسدِ لننجوَ من الدنسِ. فهذا كلُّه يُحيطُ بالنفسِ ويتبعها عند خروجِها من الجسدِ. فمن كان حكيماً وعملُه بحكمةٍ فلا ينبغي له أن يسلِّم وديعَته بدونِ أعمالٍ صالحةٍ كي يستطيعَ الخلاصَ من تلك الشدةِ. فلنحرص إذاً بقدرِ استطاعتنا والربُّ يعينُ ضعفَنا، لأنه قد عرف أن الإنسانَ شقيٌ ولذلك وهب له التوبةَ ما دام في الجسدِ.
لا تهتم بشئونِ العالم كأنها غايةُ أَمَلِكَ في هذه الحياةِ، وذلك لتستطيعَ أن تخلصَ. لا يكن لك رجاءٌ في هذا العالم لئلا يضعف رجاؤك في الربِّ. أبغض كلامَ العالم كي تبصرَ الله بقلبك. داوم الصلاةَ كلَّ حينٍ ليستنيرَ قلبُك بالربِّ. إياك والبطالة لئلا تحزن. أتعِب جسدَك لئلا تخزى في قيامةِ الصديقين. احفظ لسانَك ليسكن في قلبك خوفُ الله. أعطِ المحتاجين بسرورٍ ورضى لئلا تخجل بين القديسين وتُحرم من أمجادِهم. أبغض شهوةَ البطنِ لئلا يحيط بك عماليق. كن متيقظاً في صلاتك لئلا تأكلك السباعُ الخفية. لا تحب الخمرَ لئلا يحرمك من رضى الربِّ. أحبَّ المساكين لتخلص بسببهم في أوانِ الشدةِ. كن مداوماً لذِكر سير القديسين كي ما تأكلك غيرةُ أعمالِهم. اذكر ملكوتَ السماوات لتتحرك فيك شهوتُها. فكِّر في نارِ جهنم لكي ما تمقت أعمالها.
إذا قُمتَ كلَّ يومٍ بالغداةِ، تذكَّر أنك سوف تعطي للهِ جواباً عن سائرِ أعمالِك فلن تخطئ البتة، بل يسكن خوفُ الله فيك. أعد نفسَك للقاءِ الربِّ فتعمل حسب مشيئتهِ. افحص نفسَك ها هنا واعرف ماذا يعوزك فتنجوَ من الشدةِ في ساعةِ الموتِ، ويبصر إخوتُك أعمالَك فتأخذهم الغيرةُ الصالحة. اختبر نفسَك كلَّ يومٍ وتأمل في أي المحاربات انتصرتَ ولا تثق بنفسِك بل قل: «الرحمةُ والعونُ هما من الله». لا تظن في نفسِك أنك أجدَّتَ شيئاً من الصلاحِ إلى آخرِ نسمةٍ من حياتك. لا تستكبر وتقول: «طوباي»، لأنك لا يمكنك أن تطمئنَ من جهة أعدائك. لا تثق بنفسِك ما دمتَ في الجسدِ حتى تعبر عنك سلاطينُ الظلمةِ. ليكن قلبُك من نحو الأفكارِ شجاعاً جداً فتخف عنك حدتها، أما الذي يخاف منها فإنها تُرعبه فيخور. كما أن الذي يفزع منها يُثبت عدم إيمانه بالله حقاً، ولن يستطيعَ الصلاةَ قدام يسوع سيدِهِ من كلِّ قلبهِ ما لم يَسُد على الأفكار أولاً. الذي يريدُ كرامةَ الربِّ فعليه أن يتفرغ لطهارةِ نفسِه من الدنس. إن كنا ملومين فذلك لأن الهزيمةَ دائماً هي منا. من ينكر ذاتَه ولا يظن أنه شيءٌ فذلك يكون سالكاً حسب مشيئةِ الله. من تعوَّد الكلامَ بالكنيسةِ فقد دلَّ بذلك على عدمِ وجودِ خوف الله فيه. وذلك لأن خوفَ الله هو حفظٌ وصونٌ للعقلِ، كما أن الملكَ هو عونٌ لمن يطيعه. أما الذين يريدون أن يقتنوا الصلاحَ وفيهم خوفُ الله، فإنهم إذا عثروا لا ييأسون بل سرعان ما يقومون من عثرتِهم وهم في نشاطٍ واهتمامٍ أكثر بالأعمالِ الصالحة. أهمُ أسلحةِ الفضائل هي إتعاب الجسد بمعرفةٍ، والكسل والتواني يولِّد المحاربات. من له معرفة وهِمَّة فقد هزم الشرَ، لأنه مكتوبٌ أن الاهتمامَ يلازمُ الرجلَ الحكيم. والضعيفُ الهِمَّةِ لم يعرف بعد ما هو لخلاصِه. أما الذي يقهرُ أعداءَه فإنه يُكلَّل بحضرةِ الملك.
لو لم تكن حروبٌ وقتالٌ ما كانت فضيلة. ومن يجاهد بمعرفةٍ فقد نجا من الدينونةِ، لأنه هذا هو السورُ الحصين. أما الذي يدين فقد هدم سورَه بنقصِ معرفتهِ. من يهتم بضبطِ لسانهِ يَدُلُّ على أنه محبٌ للفضيلةِ. وعدم ضبط اللسان يدلُّ على أن داخلَ صاحبهِ خالٍ من أيِّ عملٍ صالح. الصدقةُ بمعرفةٍ تولِّد التأملَ فيما سيكون وتُرشد إلى المجد. أما القاسي القلب فإنه يدلُّ على انعدامهِ من أيِّ فضيلةٍ. الحرية تولِّد العفةَ ومكابدة الهموم تولِّد الأفكار. قساوة القلبِ تولِّد الغيظَ، والوداعة تولِّد الرحمة. نسكُ النفسِ هو بُغض التنعمِ، ونسك الجسدِ هو العوز. سقطة النفس هي مكابدة الهموم وتهذيبها هو السكوت بمعرفة. الشبع من النومِ يُثير الأفكارَ وخلاصُ القلبِ هو السهرُ الدائم. النومُ الكثير يولِّد الخيالات الكثيرة والسهرُ بمعرفةٍ يُزهر العقلَ ويثمره. النومُ الكثير يجعلُ الذهنَ كثيفاً مظلماً، والسهرُ بمقدارٍ يجعله لطيفاً نيّراً. من ينامُ بمعرفةٍ فهو أفضل ممن يسهر في الكلامِ الباطل.
النوحُ يطردُ جميعَ أنواعِ الشرورِ عند ثورانها. إذا تقبل الإنسانُ الزجرَ والتوبيخَ فإن ذلك يولِّد له التواضع، أما تمجيدُ الناس فيولِّد البذخ وتعاظم الفكر. حبُّ الإطراءِ من شأنهِ أن يطردَ المعرفةَ. وضبطُ شهوة البطن يقلِّل من تأثيرات الشهوات. شهوةُ الأطعمةِ توقظ الغرائزَ والانفعالات والامتناع منها يُقمعها. زينةُ الجسدِ هزيمةٌ للنفس ومن يهتم بها فليست فيه مخافة الله. ذِكرُ الدينونة يولِّد في الفكر تقوى الله. وقلةُ خوفِ الله تُضلُّ العقلَ. السكوتُ بمعرفةٍ يهذِّب الفكرَ وكثرةُ الكلامِ تولِّد الضجرَ والهوسَ. قهرُ الشهوةِ يدلُّ على تمامِ الفضيلة والانهزام لها يدلُّ على نقصِ المعرفة. ملازمةُ خوفِ اللهِ يحفظُ النفسَ من المحارباتِ وحديثُ أهلِ العالم والاختلاط بهم يُظلمُ النفسَ ويُنسيها التأملَ.
محبةُ المقتنياتِ تزعجُ العقلَ، والزهدُ فيها يمنحه استنارةً. صيانةُ الإنسانِ أن يقرَّ بأفكارهِ ومن يكتمها يثيرُها عليه. أما الذي يقرّ بها فقد طرحها عنه. كمثلِ بيتٍ لا بابَ له ولا أقفال يدخلُ إليه كلُّ من يقصده، كذلك الإنسان الذي لا يضبط لسانَه. وعلى مثالِ الصدأ الذي يأكل الحديدَ كذلك يكون مديحُ الناسِ الذي يُفسد القلبَ إذا مال إليه. وكما يلتفُّ اللبلاب على الكرمِ فيُفسد ثمرَه، كذلك السُبح الباطل يُفسد نمو الراهب إذا كثر حوله. وكما يفعل السوسُ في الخشبِ، كذلك تفعل الرذيلةُ في النفسِ. تواضع القلب يتقدم الفضائلَ كلَّها وشهوةُ البطنِ أساسُ كلِّ الأوجاع. الكبرياءُ هي أساسُ الشرورِ كلِّها والمحبةُ هي مصدرُ كلِّ صلاحٍ. أشرُّ الرذائلِ كلِّها هي أن يزكِّي الإنسانُ نفسَه بنفسِه. من ينكر ذاتَه يسلك في سلامٍ. والذي يعتقد في نفسِه أنه بلا عيبٍ فقد حوى في ذاتِه سائرَ العيوب. الذي يخلط حديثَه بحديثِ أهلِ العالم يُزعج قلبَه، والذي يتهاون بعفةِ جسمِه يخجلُ في صلاتهِ. محبةُ أهلِ العالم تُظلمُ النفسَ والابتعادُ عنهم يزيدُ المعرفةَ. محبةُ التعبِ عونٌ عظيمٌ وأصلُ الهلاكِ هو الكسل.
احفظ عينيك لئلا يمتلئ قلبُك أشباحاً خفية. من ينظر إلى امرأةٍ بلذةٍ فقد أكمل الفسقَ بها. إياك أن تسمع بسقطةِ أحد إخوتك لئلا تكون قد دِنته خفيةً. احفظ سمعَك لئلا تجمع لك حزناً في ذاتك. أحرى بك أن تعملَ بيديك ليصادف المسكينُ منك خبزةً، لأن البطالةَ موتٌ وسقطةٌ للنفسِ. مداومةُ الصلاةِ صيانةٌ من السبي، ومن يتوانى قليلاً فقد سَبَتهُ الخطيةُ.
من يتذكر خطاياه ويقرُّ بها لا يخطئُ كثيراً. أما الذي لا يتذكر خطاياه ويقرُّ بها فإنه يَهلكُ بها. الذي يُقرُّ بضعفهِ موبِّخاً ذاتَه أمام الله فقد اهتم بتنقيةِ طريقهِ من الخطيةِ. أما الذي يؤجل ويقول: «دع ذلك لوقتهِ»، فإنه يصبح مأوى لكلِّ خبثٍ ومكرٍ. لا تكن قاسي القلب على أخيك فإننا جميعنا قد تغلِبنا الأفكارُ الشريرةُ. إذا سكنتَ مع إخوةٍ فلا تأمرهم بعملٍ ما، بل اتعب معهم لئلا يضيع أجرُك. إذا قاتلتك الشياطين بالأكل والشرب واللبس فارفض كلَّ ذلك منهم، وبيِّن لهم حقارةَ ذاتك فينصرفوا عنك. وإذا حَسُنَ لك الزنى فاقتله بالتواضع، والجأ إلى الله فتستريح. إن حوربت بجمالِ جسدٍ فتذكَّر نتانته بعد الموتِ فإنك تستريح. وإن جاءتك أفكارٌ عن النساءِ فاذكر أين ذَهَبَت الأوليات منهن وأين حسنهن وجمالهن. وكل هذه الأمور يختبرها الإنسانُ بالإفراز ويميزها. ولن يأتينا الإفرازُ ما لم نتقنِ أسبابَ مجيئهِ وهي السكوت لأنه كنزُ الراهبِ. والسكوتُ يولِّد النسكَ، والنسكُ يولِّد البكاءَ، والبكاءُ يولِّد الخوفَ، والخوفُ يولِّد التواضعَ، والتواضعُ مصدرُ التأملِ فيما سيكون. وبُعد النظر يولِّد المحبةَ، والمحبةُ تولِّد للنفسِ الصحةَ الخالية من الأسقامِ والأمراض، وحينئذ يَعلم الإنسانُ أنه ليس بعيداً من الله فيُعدُّ ذاتَه للموتِ. فالذي يريد إدراك هذه الكرامات كلّها، عليه ألا يهتم بأحدٍ من الناسِ ولا يدينه. وكلما يصلي تنكشف له الأمور التي تقرِّبه من الله فيطلبها منه، ويُبغض هذا العالمَ، فإن نعمةَ اللهِ تَهِبُ له كلَّ صلاحٍ.
لذلك اعلم يقيناً أن كلَّ إنسانٍ يأكلُ ويشربُ بلا ضابطٍ ويحبُّ أباطيلَ هذا العالم فإنه لا يستطيع أن ينالَ شيئاً من الصلاحِ بل ولن يدركه، لكنه يخدع نفسَه. إن آثرتَ أن تتوبَ إلى الله فاحترز من التنعمِ فإنه يثير سائرَ الأوجاعِ ويطرد خوفَ الله من القلبِ. اطلب خوفَ الله بكلِّ قوتِك فإنه يُزيلُ كلَّ الخطايا. لا تحب الراحةَ ما دمتَ في هذه الدنيا. لا تأمن للجسدِ إذا رأيت نفسَك مستريحاً من المحاربات في أي وقتٍ من الأوقات. لأنه من شأن الأوجاعِ أن تثورَ فجأة بخداعٍ ومخاتلةٍ عسى أن يتوانى الإنسانُ عن السهرِ والتحفظِ، وحينئذ يهاجمُ الأعداءُ النفسَ الشقية ويختطفونها. لذلك يحذِّرُنا ربنا قائلاً: «اسهروا»، له المجدُ الدائم إلى الأبد، آمين.
وله أيضاً في الفضائلِ والرذائلِ: خوفُ اللهِ يطردُ جميعَ الرذائلِ، والضجرُ يطرد خوفَ الله. هذه الأربعة يجب اقتناؤها: الرحمةُ، غلبةُ الغضبِ، طولُ الروحِ، التحفظ من النسيانِ. العقلُ محتاجٌ في كلِّ ساعةٍ إلى هذه الأربع فضائل الآتية: الصلاةُ الدائمة بسجودٍ قلبي، محاربةُ الأفكارِ، أن تعتبرَ ذاتَك خاطئاً، وأن لا تدن أحداً. وهذه الفضائل الأربعة هي عونُ الراهبِ الشاب: الهذيذُ في كلِّ ساعةٍ في ناموسِ الله، ومداومةُ السهر، والنشاطُ في الصلاة، وأن لا يعتبر نفسَه شيئاً. ومما يدنس النفسَ والجسد ستةُ أشياءٍ: المشي في المدن، إهمال العينين بلا تحفظ، التعرف بالنساء، مصادقة الرؤساء، محبة الأحاديث الجَسَدَانية، الكلام الباطل. وهذه الأربعة تؤدي إلى الزنى: الأكل والشرب، الشبع من النوم، البطالة واللعب، والتزين بالملابس. وهذه الأربعة مصدرُ ظلمةِ العقل: مُقت الرفيق، الازدراء به، حسده، سوء الظن به. بأربعةِ أمورٍ يتحرك في الإنسانِ الغضبُ: الأخذ والعطاء، إتمام الهوى، محبته في أن يُعلِّم غيرَه، ظنه في نفسِه أنه عاقلٌ. وهذه الأربعة تُقتنى بصعوبةٍ: البكاء، تأمل الإنسان في خطاياه، جعل الموت بين عينيه، أن يقول في كل أمرٍ: أخطأتُ، اغفر لي. فمن يحرث ويتعب فإنه يَخلص بنعمة ربنا يسوع المسيح.
وله أيضاً: «أيها الحبيب، ما دامت لك فرصةٌ للتوبةِ فارجع وتقدم إلى المسيح بتوبةٍ خالصة، سارع قبل أن يُغلَق البابُ فتبكي بكاءً مراً، فَتَبِلَّ خديْك بالدموع بدون فائدة. اجلس وترقَّب البابَ قبل أن يُغلق. أسرع واعزم على التوبةِ، فإن المسيح إلهنا يريدُ خلاصَ جميعِ الناسِ وإتيانِهم إلى معرفةِ الحقِّ. وهو ينتظرك وسوف يَقبلك. له المجد إلى الأبد آمين».
سأل أحدُ الآباءِ أنبا بيمين قائلاً: «لماذا تقاتلنا الشياطين يا أبي»؟ أجاب الشيخُ قائلاً: «الحقيقة إن الشياطين لا تحاربنا إلا عند ما نتمِّم ميولَنا الرديئة التي هي في الحقيقة شياطيننا التي تحاربنا، فنُهزم أمامها برضانا. أما إن شئتَ أن تعرفَ مع من كانت الشياطين تصارعُ، قلتُ لك مع  أنبا موسى وأصحابهِ».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق