السبت، 23 فبراير 2013

يونان النبي

يونان النبي

قداسة البابا شنوده الثالث
ونحن علي أبواب صوم يونان‏, ‏أو صوم نينوى‏, ‏أود أن أحدثكم اليوم عن شخصية يونان ومشكلته‏.‏
إن قصة يونان النبي هي قصة صراع بين الذات الإنسانية والله‏. ‏ويونان النبي كان إنسانا تحت الآلام مثلنا‏. ‏وكانت ذاته تتعبه‏. ‏ونود في هذا المقال أن نتأمل صراع ذاته مع الله‏...‏
الذي يريد أن يسير في طريق الله‏, ‏ينبغي أن ينكر ذاته‏, ‏يجحدها وينساها‏, ‏ولا يضع أمامه سوي الله وحده‏. ‏ومشكلة يونان النبي أن ذاته كانت بارزة ومهمة في طريق كرازته‏. ‏وكانت تقف حائلا بينه وبين وصية الله‏, ‏ولعله كثيرا ما كان يفكر في نفسه هكذا‏:‏
ما موقفي كنبي‏, ‏وكرامتي‏, ‏وكلمتي‏, ‏وفكرة الناس عني؟؟ وماذا أفعل إذا اصطدمت كرامتي بطريقة الله في العمل؟


ولم يستطع يونان أن ينتصر علي ذاته‏...‏
كلفه الله بالذهاب إلي نينوي‏, ‏والمناداة بهلاكها‏... ‏وكانت نينوى عاصمة كبيرة فيها أكثر من‏ 120000‏ نسمة‏.‏
ولكنها كانت أممية وجاهلة وخاطئة جدا‏, ‏وتستحق الهلاك فعلا‏. ‏ولكن يونان أخذ يفكر في الموضوع‏: ‏سأنادي علي المدينة بالهلاك‏, ‏ثم تتوب‏, ‏ويتراءف الله عليها فلا تهلك‏.

ثم تسقط كلمتي‏, ‏ويكون الله قد ضيع كرامتي علي مذبح رحمته ومغفرته‏. ‏فالأفضل أن أبعد عن طريقه المضيع للكرامة‏!!‏
وهكذا وجد سفينة ذاهبة إلي ترشيش‏, ‏فنزل فيها وهرب‏. ‏لم يكن يونان من النوع الذي يطيع تلقائيا‏. ‏إنما كان يناقش أوامر الله الصادرة إليه‏, ‏ويري هل توافق شخصيته وذاته أم لا‏.‏
ليس كذلك الملائكة‏. ‏إنهم يطيعون بغير مناقشة‏, ‏وبغير تردد‏. ‏إن الله كلي الحكمة‏, ‏وهم مجرد منفذين لمشيئته‏, ‏وليسوا شركاء له في التدبير حتى يناقشوا أو يعترضوا‏...‏
سواء كان الأمر رحمة أو قصاصا‏, ‏يطيع الملائكة بلا نقاش‏: ‏يأمر الله أحدهم أن يذهب ليسد أفواه الأسود منقذا دانيال‏, ‏فيطيع‏. ‏وبنفس الطاعة يذهب الملاك الذي يأمره الرب بقتل جميع أبكار مصر‏. ‏ملائكة يأمرهم الله بإنقاذ بطرس من السجن‏, ‏أو بإنقاذ بولس‏, ‏أو بإنقاذ لوط‏, ‏أو بافتقاد هاجر‏, ‏فيطيعون‏. ‏وبنفس الطاعة ينفذ أمره الملائكة الذين يبوقون بالأبواق في سفر الرؤيا فتنزل الويلات علي الأرض تحطمها تحطيما‏. ‏لا يقولون عفوا يا رب‏, ‏أشفق وأرحم‏, ‏وأبعدنا عن هذه المهمة‏. ‏وظيفتهم هي التنفيذ‏, ‏وليس التدبير أو التفكير‏. ‏إنهم متواضعون‏, ‏لا يعتبرون أنفسهم أحن علي الناس من الله خالقهم‏.‏
يذكرنا هذا بقوانين الأحوال الشخصية‏, ‏ومنع الطلاق إلا لعلة الزنا‏, ‏وعبارات الحنو التي يدافع البعض عن زواج المطلقات‏, ‏كأنهم أكثر حبا وعطفا وحنانا من المسيح الذي وضع الوصية‏... (مصدر المقال: موقع الأنبا تكلاهيمانوت).
أما نحن فوظيفتنا هي التنفيذ وليس المناقشة‏. ‏لا نريد أن نعمل مثل يونان‏, ‏الذي تلقي الأمر من الله‏, ‏فناقشه ثم رأي الحكمة في مخالفته‏... ‏وهكذا استقل سفينة ليهرب من الرب‏! ‏مسكين هذا الإنسان الذي يظن أنه يقدر علي الهروب من الله‏! ‏تري إلي أين يهرب؟‏!‏
مهما هربت من الوصية ستجدها تطاردك حيثما كنت‏. ‏ترن في أذنيك وتدور في عقلك‏, ‏وتزعج ضميرك‏...‏
إن كلمة الرب قوية وفعالة‏, ‏ومثل سيف ذي حدين‏, ‏وتستطيع أن تخترق القلب والعقل‏, ‏وتدوي في أرجاء الإنسان‏.‏
هرب يونان إلي ترشيش‏, ‏ونسي أن الله موجود في ترشيش أيضا‏. ‏وركب السفينة وهو يعلم أن الله هو إله البحر‏, ‏كما أنه إله البر أيضا‏. ‏ولم يشأ الله أن يصل يونان إلي ترشيش‏, ‏وإنما أمسكه في البحر‏, ‏وهيج الأمواج عليه وعلي السفينة كلها‏... ‏والعجيب أن يونان كان قد نام في جوف السفينة نوما عميقا‏. ‏لا أيقظه الموج‏, ‏ولا صوت الأمتعة وهي تلقي في الماء‏, ‏ولا صوت ضميره‏!!‏
نام يونان‏, ‏لم يهتم بمشيئة الله وأمره‏, ‏ولم يهتم بنينوي وهلاكها أو خلاصها‏, ‏ولم يهتم بأهل السفينة وما تجره عليهم خطيئته‏... ‏لكنه تمركز حول ذاته‏, ‏وشعر أنه حافظ علي كرامته فنام نوما ثقيلا‏...‏
هذا النوم الثقيل كان يحتاج إلي إجراء حاسم من الله‏: ‏به ينقذ ركاب السفينة جسديا وروحيا‏, ‏وينقذ مشيئته من جهة نينوي وخلاصها‏, ‏وينقذ نفس هذا النبي الهارب‏, ‏ويعلمه الطاعة والحكمة‏. ‏مستبقيا أياه في خدمته بطول أناة عجيبة‏, ‏علي الرغم من كل أخطائه ومخالفته‏...‏
ومن هم جنودك يا رب الذين ستستخدمهم في عمليات الإنقاذ الكبرى هذه؟ يجيب الرب عمليا‏:‏
عندي الموج‏, ‏والرياح‏, ‏والبحر‏, ‏والحوت‏, ‏والشمس‏, ‏والدودة‏, ‏واليقظة‏... ‏إن كانت خليقتي العاقلة لم تطعني‏, ‏فسابكتها بالجمادات والحيوانات‏.‏
وهكذا أمر الله الرياح‏, ‏فهاج البحر‏, ‏وهاجت أمواجه‏, ‏وصدمت السفينة حتى كادت تنقلب‏. ‏وازداد هيجان البحر‏, ‏لأن أمر الرب كان لابد أن ينفذ وبكل سرعة‏, ‏وبكل دقة‏.‏
وتصرف ركاب السفينة بحكمة وحرص شديدين‏... ‏وبذلوا كل جهدهم الفني‏, ‏وصلوا كل واحد إلي إلهه وألقوا قرعا ليعرفوا بسبب من كانت تلك البلية‏, ‏فأصابت القرعة يونان‏.‏
الوحيد الذي لم يذكر الكتاب أنه صلي كباقي البحارة‏, ‏كان يونان‏. ‏وحتي بعد أن نبهه أو وبخه رئيس النوتية‏, ‏لم يلجأ إلي الصلاة‏. ‏كأن عناده أكبر من الخطر المحيط به‏...‏
حاول البحارة إنقاذ يونان بكافة الطرق فلم يستطعوا‏. ‏واعترف يونان أنه خائف من الله الذي صنع البحر والبر‏!! ‏إن كنت خائفا منه حقا‏, ‏نفذ مشيئته‏. ‏ما معني أن تخافه وتبقي مخالفا؟ ولكن كبرياء يونان كانت ما تزال تسيطر عليه‏. ‏إن الإنسان إذا تعلق بذاته وكرامته‏, ‏يمكن أن يضحي في سبيل ذلك بكل شيء‏... ‏كان يونان يدرك الحق‏, ‏ومع ذلك تمسك بالمخالفة‏, ‏من أجل الكرامة التي دفعته إليها الكبرياء‏, ‏فتحولت إلي عناد‏... ‏قالوا له‏: ‏ماذا نصنع بك ليسكن البحر عنا؟‏. ‏فأجابهم‏: ‏خذوني واطرحوني في البحر وهنا أقف متعجبا‏!!‏
علي الرغم من كل هذه الإنذارات والضربات الإلهية‏, ‏لم يرجع يونان‏. ‏لم يقل أخطأت يا رب في هروبي‏, ‏سأطيع وأذهب إلي نينوي‏... ‏فضل أن يلقي في البحر‏, ‏ولا يقول أخطأت‏..!‏
لم يستعطف الله‏. ‏لم يعتذر عن هروبه‏. ‏لم يعد بالذهاب‏. ‏لم يسكب نفسه في الصلاة أمام الله‏. ‏إنما يبدو أنه فضل أن يموت بكرامته دون أن تسقط كلمته‏!! ‏وهكذا القوة في البحر‏...‏
أما مشيئة الله فكانت لابد أن تنقذ‏. ‏هل تظن يا يونان أنك ستعاند الله وتنجح؟‏! ‏هيهات‏, ‏لابد أن تذهب مهما هربت‏, ‏ومهما غضبت‏. ‏أن الله سينفذ مشيئته سواء أطعت أم عصيت‏, ‏ذهبت أم هربت‏...‏
ألقي يونان في البحر‏, ‏وأعد الرب حوتا عظيما فابتلع يونان‏.‏
يا يونان‏, ‏صعب عليك أن ترفس مناخس‏. ‏إن شيءت فبقدميك تصل إلي نينوي‏. ‏وإن لم تنشأ فستصل بالبحر والموج والحوت‏. ‏بالأمر‏, ‏إن لم يكن بالقلب‏.‏
وفي جوف الحوت وجد يونان خلوة روحية هادئة‏, ‏ففكر في حاله‏. ‏إنه في وضع لا هو حياة‏, ‏ولا هو موت‏. ‏وعليه أن يتفاهم مع الله‏, ‏فبدأ يصلي‏. ‏إنه لا يريد أن يعترف بخطيئته ويعتذر عنها‏, ‏وفي نفس الوقت لا يريد أن يبقي في هذا الوضع‏. ‏فاتخذ موقف العتاب‏, ‏وقال‏: ‏دعوت من ضيقي الرب‏, ‏فاستجابني‏... ‏لأنك طرحتني في العمق‏... ‏طردت من أمام عينيك‏.‏
من الواضح أن الله لم يضع يونان في الضيق‏, ‏ولم يطرحه في العمق‏, ‏ولم يطرده ولكن خطيئة يونان هي السبب‏.‏
هو الذي أوقع نفسه في الضيقة‏, ‏ثم شكا منها‏, ‏ونسب تعبه إلي الله‏... ‏ولكن النقطة البيضاء، هي أنه رجع إلي إيمانه في بطن الحوت‏. ‏فآمن أن صلاته ستُستَجاب‏, ‏وقال للرب‏: ‏أعود أنظر هيكل قدسك‏. ‏آمن أنه حتى لو كان في جوف الحوت‏, ‏فلابد سيخرج منه ويري هيكل الرب‏.‏
أتت هذه القضية الكبرى بمفعولها‏. ‏ونجح الحوت في مهمته‏. ‏والظاهر أن يونان نذر نذرا بأنه إن خرج من جوف الحوت‏, ‏سيذهب نينوي لأنه قال للرب وهو في جوف الحوت أما أنا فبصوت الحمد أذبح لك‏, ‏وأوفي بما نظرته‏ 2:9. ‏أي نذر تراه غير هذا؟‏! ‏ثم إنه لما قذفه الحوت إلي البر‏, ‏وصدر إليه زمر الرب ثانية‏, ‏نفذ نذره‏, ‏وذهب إلي نينوي‏...‏
ولكن الظاهر أنه ذهب بقدميه مضطرا‏, ‏وليس بقلبه راضيا‏. ‏ذهب من أجل الطاعة‏, ‏وليس عن اقتناع‏.‏
بلغ الرسالة إلي الناس‏. ‏ونجحت الرسالة روحيا‏... ‏وتاب أهل نينوي وتذللوا أمام الرب‏, ‏وصاموا‏, ‏وصلوا‏. ‏وقبل الرب توبتهم‏, ‏ولم يهلك المدينة‏. ‏ورأي النبي أن كلمته قد سقطت‏, ‏ولم تهلك المدينة فاغتاظ‏.‏
وكان غيظ يونان دليلا علي الذاتية التي لم يتخلص منها‏.‏
ما كان يجوز إطلاقا إن يغتاظ النبي لخلاص أكثر من‏ 120000‏ نسمة‏, ‏قد رجعوا إلي الله بالتوبة وقلب منسحق‏, ‏لأن الكتاب يقول‏: ‏يكون هناك فرحا في السماء بخاطئ واحد يتوب‏. ‏لا شك إذن أنه قد كان هناك فرحا عظيما جدا في السماء بخلاص أهل نينوي‏. ‏ولكن يونان لم يشارك في هذا الفرح من أجل ذاتيته‏. ‏كما أن الابن الأكبر لم يشارك في الفرح برجوع أخيه الصغير وفي الحفل الذي أقيم له لأجل ذاتيته أيضا لو‏ 15.‏
في كل هذا لم تكن مشيئة يونان موافقة لمشيئة الله‏.‏
ولم يكتف يونان بهذا‏, ‏بل عاتب الله‏, ‏وبرر ذاته‏, ‏وظن أن الحق في جانبه‏. ‏فصلي إلي الله وقال‏: ‏آه يا رب‏, ‏أليس هذا كلامي إذا كنت بعد في أرضي‏. ‏لذلك بادرت بالهرب إلي ترشيش‏, ‏لإني علمت أنك إله رؤوف ورحيم‏ 4:2.‏
كيف صلي‏, ‏وهو في تلك الحالة القلبية الخاطئة المغتاظة؟
وكيف تكلم كما لو كان مجنيا عليه وقال‏: ‏آه يا رب؟ وكيف ظن الحق في جانبه قائلا‏: ‏أليس هذا كلامي وكيف برر‏ ‏هروبه قائلا‏: ‏لذلك بادرت بالهرب‏.... ‏لم يقل ذلك في شعور بالندم أو الانسحاق‏, ‏بل شعور من له حق‏, ‏وقد رضي بالتعب صابرا‏!‏
عجيب هو الإنسان حينما يجامل نفسه علي حساب الحق‏! ‏ويرفض الاعتراف بالخطأ مهما كانت أخطاؤه واضحة‏!!‏
علي أن الله استخدم في علاجه أربعة أمثلة من مخلوقاته غير العاقلة التي كلفت بمهام صعبة‏, ‏وأدتها علي أكمل وجه‏, ‏دون نقاش‏: ‏الأمواج‏.‏
التي لطمت السفينة حتى كادت تغرق‏, ‏الحوت الذي بلع يونان‏, ‏الشمس التي ضربت رأسه فذبل‏, ‏الدودة التي أكلت اليقطينة‏...‏
أما يونان فجلس شرقي المدينة ليري ماذا يحدث فيها‏. ‏كما لو كان ينتظر أن يعود الله فيهلك الشعب كله إرضاء لكرامة يونان؟‏!!‏
وأعطاه الله درسا من كل تلك الكائنات غير العاقلة التي كانت أكثر تنفيذا لمشيئته من هذا النبي العظيم‏, ‏الذي لم يتركه الرب بل هداه إلي طريقه‏, ‏بركة صلواته فلتكن مع جميعنا‏.‏
إن قصة يونان النبي وتوبة أهل نينوي‏, ‏إنما تقدم لنا تأملات كثيرة‏...‏
لقد دخل شعب نينوي في التاريخ‏, ‏ولم تكن لهم مظاهر عظمة تدعو إلي ذلك علي الإطلاق‏...‏
كانوا شعبا أمميا لا يعرف الله‏. ‏وكانوا في حالة من الجهل لا يعرفون يمينهم من شمالهم يون‏ 4:11.‏
وكانوا أيضا خطاة تلزمهم التوبة‏...‏
ولكن الذي سجل اسمهم‏, ‏وخلد قصتهم في الكتاب المقدس‏, ‏هو إنهم تابوا‏...‏
وقال عنهم السيد المسيح إنهم سيقومون في يوم الدين ويدينون هذا الجيل‏, ‏لأنهم تابوا بمناداة يونان متي‏ 12:41... ‏ومما أعطي لتوبة أهل نينوي أهمة في التاريخ‏, ‏إنها كانت توبة جادة وسريعة وقوية‏. ‏كما انها شملت الشعب كله من الملك إلي عامة الناس‏. ‏واستطاعت هذه التوبة أن تكسب رضا الله‏, ‏بل ودفاعه عن هؤلاء التائبين‏...‏
كثيرون سجل التاريخ أسماءهم بسبب أعمال عظيمة قاموا بها‏, ‏أو بسبب نبوغ أو ذكاء خاص‏, ‏أو ارتفاع في حياة الروح‏, ‏أو قدرة علي إتيان المعجزات‏, ‏أو ما منحهم الله إياه من مواهب‏...‏
أما نينوي فنالت شهرتها بالتوبة‏...‏
وكلما نذكر نينوي‏, ‏نذكر هذه التوبة‏, ‏لكي ما نقتدي بها في حياتنا‏...‏
هناك نوعيات من التوبة لا يستطيع التاريخ أن يتجاهلها‏, ‏بخاصة إذا كانت تلك التوبة نقطة تحول في الحياة‏, ‏ولا رجعة فيها‏. ‏وما بعدها يختلف تماما عن حياة الخطية الأولي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق