الأحد، 20 مايو 2012

زهور من بستان الرهبان 16






زهور من بستان الرهبان 16
 
الأب تيثوي: قيل عنه إنه كان يبسطُ يديه بسرعةٍ عند الصلاةِ، فكان عقلُه يُخطف إلى فوق، فإذا اتفق أن صلَّى معه أخوه، فإنه كان يحرص على ألا يرفعَ يديه لئلا يُخطف عقلُه. وحدث مرةً أن سأله أخٌ قائلاً: «كيف أحفظُ قلبي»؟ فقال له: «إنه لا يمكنك أن تحفظَ قلبَك، ما دام فمُك وبطنُك مفتوحين».
الأب إيراسيس قال: «كما أن الأسدَ مرهوبٌ لدى الحميرِ الوحشيةِ، هكذا الراهبُ المهذَّبُ مرهوبٌ لدى أفكارِ الشهوةِ».
كما قال: «من لا يقدر أن يضبطَ لسانَه وقتَ الغضبِ، فلن يقدرَ أن يغلبَ حتى ولا صغيرةً من صغارِ الآلامِ».
وقال أيضاً: «إنه جيدٌ أن يأكلَ الإنسانُ لحماً ويشربَ خمراً، ولا يأكلَ لحومَ الإخوةِ ويشربَ دماءَهم بالوقيعةِ فيهم».
وقال كذلك: «كما أنَّ الحيةَ لما ساررت حواءَ أخرجتها من الجنةِ، كذلك بها يتشبَّه ذاك الذي يقعُ بقريبهِ، في أنه يُهلكَ نفسَ سامعيه، ونفسُه كذلك لن تفلتَ، كما لم تفلت الحيةُ من اللعنةِ».
كذلك قال: «إن الطاعةَ فخرُ الراهبِ، فمن اقتناها يسمعُ اللهُ صوتَه، ويقفُ أمامَ المصلوبِ ربِّ المجدِ بدالةٍ، لأن إلهَنا من أجلِ طاعتهِ لأبيه صُلب عنا».
الأب فيليكا: زاره إخوةٌ ومعهم علمانيون، وطلبوا إليه أن يقولَ لهم كلمةً، أما الشيخُ فبقي صامتاً. فلما طلبوا إليه كثيراً قال لهم: «هل تبتغون أن تسمعوا للكلمةِ»؟ فأجابوه: «نعم أيها الأب». فقال لهم: «لما كان الإخوةُ يسألون المشايخَ ويصنعون ما يقال لهم، فإن اللهَ كان يُلهم الآباءَ بما يقولونه، وأما الآن فإنهم يسألون ولا يفعلون بما يقال لهم، لذلك رفع اللهُ موهبةَ الكلامِ عن الشيوخِ، إذ لا يجدون ما ينطقون به، لأنه لا يوجد من يعمل، لأن المزمورَ يقول: إن الربَّ اطَّلعَ من السماءِ على بني البشر فلم يجد من يفهم». فلما سمع الإخوةُ هذا الكلامَ تنهدوا قائلين: «صلِّ علينا أيها الأب».
مضى شيخٌ من المشايخِ إلى مدينةِ الحكماءِ التي يُقال لها أثناس (أي أثينا)، حيث مكث ثلاثةَ أيامٍ لم يناوله أحدٌ فيها طعاماً، ولم يكن له شيءٌ سوى السبانية التي هو ملتفٌ بها، وفي اليومِ الرابع اشتدَّ عليه الجوعُ، فقام وجاء بقربِ الموضعِ الذي يجتمعُ فيه الحكماءُ، وهناك أخذ يصيحُ ويصفقُ بيديه ويقول: «ويلي، يا رجال أثناس أغيثوني». فاجتمع إليه الحكماءُ وعليهم أزرٌ مُذهبةٌ، فقالوا له:«ما شأنُك، ومن أين أنت»؟ فقال لهم: «أنا إنسانٌ راهبٌ، ومنذ خرجتُ من وطني وقعتُ في أيدي ثلاثةِ غرماء، اثنان منهم قد وفَّيتُهما حقَّهما فانصرفا، أما الثالث فإنه لا يفارقني مطالِباً بحقِه، وليس لي ما أوفيه». قالوا له: «ومن هم أولئك الغرماءُ لنعرفَهم، وأين الذي يؤذيك»؟ فقال لهم: «آذاني حبُّ المالِ والزنى والحنجرةُ، فاسترحتُ من اثنين وهما حبُّ المالِ والزنى، لأني لا أمتلكُ من الدنيا شيئاً، ولا أتعلق بحبِّ إنسانٍ ما، وأما الحنجرةُ فلا أستطيعُ أن أستريحَ منها، ولي اليومَ أربعةُ أيامٍ لم أذق فيها طعاماً، وها بطني مثلُ غريمِ سوءٍ يطالبني مريداً أن يأخذَ مالَه، وإن لم أعطِه، فإنه لا يدعني أعيش». فظن بعضُ الحكماءِ أنه يمزح، فأعطوه ديناراً، فلما أخذه ذهب إلى بائعِ الخبزِ وأعطاه له، وأخذ خبزةً واحدةً وانصرفَ بسرعةٍ إلى خارجِ المدينةِ، فعلم الحكماءُ إنه بالحقِ ذو حسناتٍ، فأعطوا الرجلَ ثمن خبزتِه، واستردوا الدينارَ.
الأب خوما: لما دنت وفاتُه، قال لتلاميذِه: «لا تكن لكم خلطةٌ مع هيراطيقي، ولا معرفةٌ برئيسٍ، ولا تكن أياديكم مبسوطةً للأخذِ، بل بالحري للعطاءِ».
قال شيخٌ: «إن أعرفُ إنساناً من أهل القلالي، هذا قد صام جمعةَ الفصحِ كلَّها، فلما كان وقتُ الاجتماعِ في عشيةِ السبتِ، لم يحضر مع الإخوةِ، لئلا يأكلَ شيئاً مما يوضع على المائدةِ، بل عمل في قلايتهِ يسيراً من السلقِ، وأكله بغيرِ زيتٍ».
قيل عن أنبا أور وأنبا تادرس إنهما كانا يطليان قلايةً بالطينِ، فقال أحدُهما للآخرِ: «لو افتقدَنا الربُّ في هذه الساعةِ فماذا نصنعُ»؟ فبكيا وتركا الطينَ، وانصرف كلُّ واحدٍ منهما إلى قلايتهِ.
قيل عن أنبا أور إنه لم يكذب قط، ولم يحلف، ولم يلعن، ولا كان يتكلم إلا للضرورةِ، وكان يوصي تلميذَه قائلاً: «انظر يا ابني، لا تُدخل هذه القلايةَ كلمةً غريبةً».
حدث مرةً أن مضى تلميذ أنبا أور ليبتاعَ خوصاً، فقال له البستانيُ: «إن أنساناً أعطانا عربوناً من ثمن الخوصِ، ولم يرجع إلى الآن، فادفع الثمنَ وخذه». فأخذه وجاء وأخبر الشيخَ بما قاله البستانيُ، فلما سمع الشيخُ بذلك، حط بيديه على الأرضِ وقال: «إن أور لن يعملَ في هذا العامِ عملاً». وفعلا لم يدع الخوص يدخل قلايتَه، فأخذه التلميذُ وردَّه إلى صاحبهِ.
قال الأنبا أور: «إن وقع بينك وبين أخٍ حزنٌ، وجحد ما قاله فيك، فلا تلاججه، وإلا فمصيره أن يتوقَّح ويقول: نعم، أنا قلت».
قال أحدُ الشيوخِ: «إنَّ لي أربعينَ سنةً أحسُّ بقتالِ الخطيةِ في قلبي، وما خضعتُ لها قط لا بشهوةٍ ولا بغضبٍ».
قيل عن أنبا قيسان: إنه ذهب إلى شيخٍ له أربعون سنةً في البريةِ، وسأله بدالةٍ: «ماذا قوَّمتَ أيها الأبُ في هذه الخلوةِ التي لا تكاد تلتقي فيها بإنسانٍ»؟ فأجابه قائلاً: «إني منذ أن ترهبتُ، لم تبصرني الشمسُ آكلاً». فقال له سائلُه: «ولا أبصرتني الشمسُ غاضباً قط».
قال القديس لنجينوس: «الصومُ يوضعُ الجسمَ، والسهرُ يُطهِّر العقلَ، والسكوتُ يجلبُ البكاءَ، والبكاءُ يُعَمِّّد الإنسانَ ويجعله بغيرِ خطيةٍ».
وقيل إنه كان لهذا الأبِ تخشعٌ كبيرٌ في صلاتِه وقراءتِه، فقال له تلميذُه مرةً: «هل هذا هو القانون الإلهي يا أبي، أن يبكيَ الإنسانُ في خدمتِه لله»؟ فأجابه: «نعم يا ولدي، هذا هو القانون، ليس لأن اللهَ قد صنعَ الإنسانَ للبكاءِ، بل للفرحِ والسرورِ، وليخدمَه بطهارةِ قلبٍ، وعدمِ خطيةٍ كالملائكةِ، فلما سقط الإنسانُ في الخطيةِ، احتاج إلى النوحِ والبكاءِ، وحيث لا توجد خطيةٌ، فليست هناك حاجةٌ إلى البكاءِ».
سأل أخٌ أنبا تادرس قائلاً: «إني أريدُ أن أُتَمِّمَ الوصايا». فقال له الشيخُ: «حَدث أن كان البابا ثاؤفيلس البطريرك في البريةِ، فقال: إني أريدُ أن أُكمِّلَ فكري مع اللهِ. فأخذ دقيقاً وصنعه خبزاً، فأتاه مساكين يطلبون شيئاً، فأعطاهم الخبزَ، ثم طلب منه آخرون فأعطاهم الزنابيل، وطلب منه غيرهم، فأعطاهم الثوبَ الذين كان يلبسه، ودخل القلايةَ ملفوفاً في وزرةٍ، ومع كلِّ ذلك فإنه كان يلومُ ذاتَه قائلاً: إني ما أتممتُ وصيةَ اللهِ».
ومرةً توجَّه البابا ثاؤفيلس إلى الإسقيط، فاجتمع الإخوةُ وقالوا لأنبا بفنوتيوس: «قل للبابا كلمةً واحدةً لكي ينتفعَ». فقال لهم الشيخُ: «إن لم ينتفع بسكوتي، فحتى ولا بكلمتي ينتفعُ». فسمع البطريركُ ذلك وانتفع جداً.
قال أنبا بيمين عن أنبا يوحنا القصير: «إنه طلب إلى اللهِ فرفع عنه الآلامَ وصار بلا همٍّ. فلما توجَّه إلى الشيخِ قال له: ها أنا تراني يا أبي مستريحاً، وليست لي أشياءٌ تقاتلني بالجملةِ. فقال له الشيخُ: امضِ اسأل اللهَ أن يُرجِع إليك القتالَ، لأنه بالقتالِ تنجحُ النفسُ وتفوزُ. فلما جاءه القتالُ، لم يصلِّ كي يرتفعَ عنه، بل كان يقول: أعطني يا ربُّ صبراً على الاحتمالِ».
سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «يا أبي، كيف يأتي الإنسانُ إلى الاتضاعِ»؟ فأجابه الشيخُ: «ذلك بأن تكون فيه مخافةُ اللهِ». فقال الأخُ: «وبأيِّ شيءٍ تأتي مخافةُ اللهِ»؟ قال الشيخُ: «بأن يجمعَ الإنسانُ ذاتَه من كلِّ الناسِ، ويبذلَ جسمَه للتعبِ الجسدي بكلِّ قوتِه، ويذكرَ خروجَه من الجسدِ ودينونةَ اللهِ له».
قيل: التقى الشيطانُ مرةً بالأب مقاريوس، وهو حاملٌ خوصاً، وقال: «ويلاه منك يا مقاريوس، هو ذا ما تصنعَه أنت أصنعه أنا كذلك، أنت تصومُ وأنا لا آكلُ، أنت تسهرُ وأنا لا أنامُ، ولكن بشيءٍ واحدٍ تغلبني». فقال له الشيخُ: «وما هو»؟ فأجابه الشيطانُ: «إنك بالاتضاعِ وحده تقهرني».
سأل أنبا إشعياء الأنبا مقاريوس قائلاً: «قل لي كلمةً». فأجابه الشيخُ: «اهرب من الناسِ». فقال أنبا إشعياء: «وما هو الهروبُ من الناس»؟ فأجابه الشيخُ: «هو جلوسك في قلايتك وبكاؤك على خطاياك».
ومرةً طلب منه أخٌ أن يقولَ له كلمةً، فقال له: «لا تصنع بأحدٍ شراً، ولا تدن أحداً، احفظ هذين وأنت تخلص».
قيل عن القديس مقاريوس إنه صار كملاكٍ أرضي، فكما أنَّ اللهَ يستُرُ زلاتِ العالمِ، كذلك كان مقاريوس يسترُ النقائصَ التي يراها.
قال الأب مقاريوس: «إن نحن ذَكرنا السيئاتِ التي تحلُّ بنا من الناسِ، فإننا نقطع قوةَ ذِكرِ اللهِ من قلوبنا، وإن نحن ذكرنا شرورَ الشياطين نبقى غيرَ مجروحين».
قالت الأمُ سارة: «إن أنا طلبتُ أن أصنعَ إرادةَ كلِّ الناسِ، فإني سوف أوجد تائهةً على بابِ كلِّ أحدٍ، فينبغي لي أن أحفظَ قلبي نقياً مع كلِّ أحدٍ، وأنا مبتعدةٌ عن كلِّ أحدٍ».
أخبروا عن شيخٍ أنه كان جالساً في قلايته، فأتاه أحدُ الإخوةِ في الليلِ، وأراد الدخولَ إليه، فلما بلغ البابَ سمع صوتَه من داخلٍ وهو يقول: «يكفي، يكفي، حتى متى؟ اذهبوا الآن من قدامي». ثم سمعه يقول: «تعالَ تعالَ يا صديقي». فلما دخل إليه قال: «لمن كنتَ تتكلم يا أبي»؟ قال له: «لحسياتي الرديئة كنتُ أطردُ، وللصالحاتِ كنتُ أدعو».
حدَّث شيخٌ قائلاً: إني خرجتُ دفعةً من قلايتي وجُزتُ بقلايةِ شيخٍ قديسٍ، فسمعتُه وأنا خارجها يخاصمُ خصومةً شديدةً، ويقول: «حتى متى؟ كيف من أجلِ كلمةٍ واحدةٍ ذهب كلُّ هذا»؟ فلما سمعتُ صوتَ الخصومةِ، ظننتُ أن عندَه إنساناً يشاحنه، فقرعتُ البابَ لأصلحَ بينهم، ولما دخلتُ لم أجد أحداً سوى الشيخِ وحده، فسألتُه بانبساطٍ وقلتُ له: «يا أبي، مع من كنتَ تتخاصم»؟ فقال لي: «كنتُ أخاصمُ فكري، لأني قد استظهرتُ أربعةَ عشرَ مصحفاً (أي حفظتُها عن ظهرِ قلبٍ)، وسمعتُ خارجاً كلمةً واحدةً قبيحةً، فلما بدأتُ أصلي، جاءت تلك الكلمةُ، ووقفتْ قدامي، وأبطلتْ تلك المصاحفَ كلَّها، فمن أجلِ ذلك كنتُ أخاصمُ فكري».
قال شيخٌ: «إذا أنتَ غطَّيتَ عيني الدابةِ، دارت الرحى، وإذا لم تغطِ، لا تدور، كذلك الشيطانُ، إذا تُرِكَ ليغطي عيني الإنسانِ، فهو يَضَعُهُ في كلِّ خطيةٍ، وما دامت عينا عقلِ الإنسانِ مكشوفتين، فإنه يهربُ من كلِّ عثراتِ الشياطين».
قال شيخٌ: «إذا قمتَ باكرَ كلَّ يومٍ، أمسك لك أمراً يَجلِبُ الصلاحَ، واحفظ وصايا اللهِ بطولِ روحٍ، بمخافةِ اللهِ، بالصبرِ على الأحزانِ، وبالحبسِ وبالصلواتِ، بالتنهدِ، بضبطِ اللسانِ، بحفظِ العينينِ، بقلةِ الغضبِ، وألا تحسبَ نفسَك شيئاً، بل تجعل فكرَك تحتَ كلِّ الخليقةِ، بجهادِ الصليبِ، بالتوبةِ والبكاءِ، بسهرِ الليالي، بصبرٍ صالحٍ، بالجوعِ والعطشِ، وذلك لتستحقَ الدعوةَ السمائيةَ، بنعمةِ ربنا يسوعَ المسيحِ له المجد».
قيل عن أنبا قاسيانوس: إنه أخذ مرةً تليساً، ومضى إلى الأندر مع الحصَّادين، وقال لصاحبِ الأندر: «أعطني قمحاً». فقال له: «لماذا لم تأتِ لتحصدَ، فكنتَ تستحقَ أن تأخذَ». فقال له الشيخُ: «هل إذا لم يحصد الإنسانُ لا يأخذ أجرةً»؟ قال: «لا يأخذ». فما كان من الشيخِ إلا أن انصرف، فقال له الإخوةُ الذين عاينوا ما حدث: «لماذا فعلتَ هكذا يا أبانا»؟ فقال لهم: «سُنَّةً صنعتُها لنفسي وهي: إن لم يعمل الإنسانُ ويتعب، فلن يأخذَ أجرَه من اللهِ».
كان لراهبٍ ثوبٌ جيدٌ، فتصدَّقَ به على مسكينٍ، وبعد يومٍ مرَّ الراهبُ بالمدينةِ، فأبصرَ ثوبَه على زانيةٍ، فحزِنَ جداً، فتراءى له ملاكُ الربِّ وقال له: «لا تحزن لأجلِ أنَّ ثوبَك لَبستْهُ زانيةٌ، لأنك ساعةَ دَفعتَهُ لذلك المسكينِ لبسه المسيحُ، وإن كان ذاك قد أعطاه لزانيةٍ، فهو يحملُ إثمَه على نفسِه».
قال أنبا قاسيانوس: إنَّ أنبا موسى أوصانا بألا نكتمَ أفكارَنا بل نكشفُها لمشايخ روحانيين لهم معرفةٌ وتمييزٌ، وليس لمن طالَ عمرُه، وشابَ شعرُه، لأن كثيرين قصدوا أهلَ كبرِ السنِ، وكشفوا لهم عن أفكارِهم، وحيث أنه لم يكن عندهم معرفةٌ، فعِوضَ العلاجِ طرحوهم في اليأسِ، وهذا ما حدث لأخٍ من البارزين في الجهادِ، إذ أنَّه لما تأذَّى بالزنى نتيجة كثرةِ القتالِ الواقع عليه، ذهب إلى أحدِ المشايخ، وكشف له عن أفكارِه، وكان الشيخُ عادمَ المعرفةِ، فتضجَّرَ منه وقال: «أيها الشقي، إذ قد توسختْ حواسُك بهذه الأفكارِ، على أيِّ شيءٍ تتَّكل»؟ فلما سمع الأخُ قولَه، حزن جداً ويئس من خلاصِه، وترك قلايته، ومضى قاصداً العالمَ، ولكن حدث بتدبيرٍ من اللهِ أن التقى به شيخٌ آخر، فلما رآه عابساً مضطرباً سأله عن حالهِ قائلاً: «ماذا بك يا ولدي»؟ فقال له الأخُ: «يا أبي إني تأذَّيتُ بأفكارِ الزنى، فمضيتُ إلى الشيخِ فلان، وكشفتُ له أمري، فبحسب جوابهِ لي، ليس لي رجاءٌ في الخلاصِ». فلما سمع الشيخُ قولَه، أخذ في تسكينِ روحِه، وابتدأ يتملَّقه قائلاً: «لا يغمك هذا الكلام ولا تيئس نفسُك من الخلاصِ، فها أنا بالرغمِ مما بلغتُه من هذا السنِّ وهذه الشيبةِ، فكثيراً ما أتأذى بهذه الأفكارِ، فلا تحزن من هذا الاشتغال الذي لا يبلغ جهادُنا فيه مقدارَ ما يأتينا من رحمةِ الله ومعونتِه، لكن هَبْ لي يومَك هذا وارجع إلى قلايتك». فأطاع الأخُ كلامَ الشيخِ ورجع معه إلى قلايتِه. أما الشيخُ الذي ردَّه إلى قلايتِه، فإنه أتى إلى قلايةِ ذلك الشيخِ الذي يأَّسه ووقف خارجها وسأل اللهَ بدموعٍ كثيرةٍ قائلاً: «أنا أطلبُ إليك يا ربي وإلهي أن تصرفَ هذا القتالَ عن هذا الأخِ، وتسلِّطه على هذا الشيخِ الذي يأَّسه، وذلك ليجربَ في شيخوختِه ويتعلمَ في كبرِ سنِّهِ ما لم يتعلمه في طولِ زمانهِ، ليشعر بأوجاعِ المجاهدين المقاتَلين فيتوجَّع لوجعِهم، وبذلك يحصلُ على منفعةِ نفسِه». فلما أتم الشيخُ صلاتَه، نظر رجلاً أَسودَ واقفاً بقرب قلايةِ الشيخِ وهو يصوِّب نحوه سهاماً ويجرحه، وإذا بالشيخ يقومُ لساعتهِ سكراناً، ويخرج من قلايته، فيسلك الطريقَ التي سلكها الشابُ الذي يأَّسه، مريداً أن يعودَ إلى العالمِ. فلما علم الشيخُ بما عزم عليه ذلك الشيخُ، استقبله وقال له: «إلى أين أنت ذاهبٌ أيها الأبُ، وما سبب هذا الاضطراب الذي اضطرَّك للخروجِ من قلايتِك»؟ أمَّا هو فتوهَّمَ أن الشيخَ قد عرفَ بحالِه، ومن الخجلِ لم يَرُدَّ عليه جواباً. فقال له ذاك: «ارجع إلى قلايتِك، ومن الآن كن عارفاً بضعفِك، واعلم بأنك إلى هذه الغايةِ لم تُجرَّب بعد، إما لأن الشيطانَ كان غافلاً عنك، أو لاستهانتهِ بك لم يتجرد لقتالِك، ولذلك نجوتَ، وها قد ظهر الآن أنك غيرُ أهلٍ أن تُعدَّ من المجاهدين، لأنك لم تقدر أن تصارع يوماً واحداً، فما أصابك اليوم كان نتيجةً لتصرفِك مع ذلك الشابِ الذي أتاك، وقد آذاه عدوُنا كلِّنا، فبدلاً من أن تعينَه وتشجعَه، ألقيتَه في اليأسِ، ولم تفكر فيما قاله الكتابُ: خلِّصوا المَسوقين إلى الموتِ، شجِّعوا صغيري الأنفس. ولم تذكر أنه مكتوبٌ عن سيدِك: قصبةً مرضوضةً لم يكسر، وسراجاً خاملاً لم يُطفئ. فمن اليومِ واظب على الصلاةِ والدعاءِ، ليصرفَ اللهُ عنك هذه الضربةَ التي أصابتك، لأنه قال: أنا أضربُ وأنا أشفي، وأنا أُميتُ وأنا أُحيي، وهو الذي يُحدر إلى الجحيمِ ويُصعد». ولما قال القديسُ هذا، صلى إلى اللهِ فانصرف عن ذلك الشيخِ ما كان قد نزل به من القتالِ، ووعظه قائلا: «يجب أن تسألَ اللهَ في كلِّ وقتٍ أن يعطيك لسانَ أدبٍ لتعرفَ ماذا ينبغي أن تقولَه في وقتِه».








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق