الأحد، 20 مايو 2012

زهور من بستان الرهبان 18




زهور من بستان الرهبان 18
 
قال أنبا ديادوخس: »من يشاءُ أن يُطهِّرَ قلبَه جداً فليتخذَ له كلَّ حينٍ الذِكرَ الصالحَ الذي هو اسمُ ربنا يسوعَ المسيحِ، الاسمُ القدوسُ، عملاً وهذيذاً وكلاماً وفكراً بغيرِ فتورٍ، وبمحبةٍ عظيمةٍ وشوقٍ كثيرٍ، وليُخرِجَ من عقلِهِ وَسَخَ الخطيةِ بعملِ الوصايا كلِّ حينٍ«.
قال شيخٌ: »الرجلُ الذي يرى موتَه قريباً جداً منه في كلِّ وقتٍ، فإنه يستطيعُ أن يقاومَ الضجرَ«.
سأل أخٌ شيخاً: »ما هو نموُّ الإنسانِ وتقويمُه؟« قال الشيخُ: »نموُّ الإنسانِ وتقويمُه هو الاتضاع، لأنه مادام الإنسانُ سائراً نحو فضيلةِ الاتضاعِ، فإنه سائرٌ إلى قدام وهو ينمو«.
قيل عن شيخٍ إنه كان كثيرَ الرحمةِ، فحدث غلاءٌ عظيمٌ، ولكنه لم يتحول عن فعلِ الرحمةِ، حتى نفذَ كلُّ شيءٍ له، ولم يبقَ عنده سوى ثلاثِ خبزاتٍ، فحين أراد أن يأكلَ أحبَّ اللهُ امتحانه، وذلك بأن قرع سائلٌ بابَه، فقال لنفسِه: »جيدٌ لي أن أكونَ جائعاً، ولا أردَّ أخَ المسيحِ خائباً في هذا الغلاءِ العظيمِ«. فأخرجَ خبزتين له، وأبقى لنفسِه خبزةً واحدةً، وقام وصلى وجلس ليأكلَ، وإذا سائلٌ آخر قد قرع البابَ، فضايقته الأفكارُ من أجلِ الجوعِ الذي كان يكابده داخله، ولكنه قفز بشهامةٍ، وأخذ الخبزةَ وأعطاها للسائلِ قائلاً: »أنا أؤمن بالمسيحِ ربي، إني إذا أطعمتُ عبدَه في مثلِ هذا الوقتِ الصعبِ، فإنه يطعمني هو من خيراتِه التي لم ترها عينٌ، التي أعدَّها لصانعي إرادتِه«. ورقد جائعاً، وبقيَ هكذا ثلاثةَ أيامٍ لم يذق شيئاً، وهو يشكرُ اللهَ، وبينما كان يصنع خدمته بالليلِ، جاءه صوتٌ من السماءِ يقول له: «لأجل أنك أكملتَ وصيتي، وغفلت عن نفسِكَ، وأطعمتَ أخاك الجوعان، لا يكونُ في أيامِك غلاءٌ على الأرضِ كلِّها«، فلما أشرقَ النورُ، وجد على البابِ جِمالاً محمَّلةً خيراتٍ كثيرةً، فمجَّد الله، وشكر الربَّ يسوعَ المسيحِ، ومن ذلك اليومِ عمَّ الرخاءُ الأرضَ كلَّها.
قال أنبا باخوميوس: »إذا أكمل الإنسانُ جميعَ الحسناتِ وفي قلبهِ وَجْدٌ على أخيه، فهو غريبٌ من اللهِ«.
قال أنبا أثناسيوس: »من يعاتبك ويوبخك على زلاتِك، أحبه مثلَ نفسِك، واتخذه لك صديقاً«.
وقال أيضاً: »من يشتم الذي يعلِّمه خلاصَه، فإنه يشتم رجاءَ اللهِ مخلصه«.
قال أنبا تيموثاوس: »المحبة لا تعرف أن تدينَ رفيقها، ولا تكافئ بالسيئاتِ«.
وقال أيضاً: »من يهتمُّ بجسدِه بشهوةِ أكلٍ وشربٍ، فهو يقيمُ عليه الحربَ، ويقاتل نفسَه بنفسِه«. كما قال أيضاً: »إن لم تتسلط على أمعاءِك، وتقهر جسدَك في كلِّ شيءٍ، فلن تستطيع أن تقتني الطهارةَ«.
وقال كذلك: »إن شئتَ أن تصادقَ الله، فلا تُحزن أحداً من الناسِ، حتى ولو أكثرَ الإساءَة إليكَ، بل اترك الأمرَ للهِ».
وقال أيضاً: «إذا أنت صادقتَ اللهَ، فسوف يقوم الكلُّ عليك، ويرفعون أعقابهم على رأسِك. وأخيراً، إكليلاً من ياقوتٍ يضعونه عليك، وتاجاً ملوكياً يضعونه على رأسِكَ«.
قال الأنبا أنطونيوس: »لا تَحزن ولا تتألم ولو قليلاً على شيءٍ لهذه الدنيا، ولا تقلق إذا شتمك جميعُ الناسِ، فهم يُشبهون الغبارَ الذي تحمله الريحُ، بل احزن بالحري، إذا ما عَمِلتَ ما يستوجب الشتيمةَ«.
وقال أيضاً: »ما منفعةُ كلام الكرامةِ، فإنه يطير في الهواءِ، وماذا يحدثُ من الخسارةِ العارضةِ من الشتيمةِ الصائرة مجاناً؟ فهوذا الناسُ يموتون، وتموت كرامتهم، وشتيمتهم أيضاً تذهبُ معهم«.
قال الأب برصنوفيوس: »إذا ما حرَّكك فكرٌ من الشيطانِ على إنسانٍ، فقل في نفسِك بطولِ روحٍ: إني قد أخضعتُ ذاتي للهِ لكي ما أخدم آخرين، فيكُفَ عنك الفكرُ، وكن دائماً مستقصياً عن أفكارِك، ولتبكِّتها، لأن الذي يُبكِّت أفكارَه، ويقول إنه خاطئٌ، وهو في فعلِه ليس خاطئاً، فهذا هو غايةِ الاتضاعِ، ومن كان متضعاً، فإنه لا يغضب، ولا يخاصم، ولا يدين أحداً، ولكنه يرى الناسَ كلَّهم أخيرَ منه، ومن يعلم أنه خاطئٌ فلا يلوم قريبَه، ولا يعتل به».
وقال أيضاً: »لا تحسب نفسَك شيئاً وأنت تتنيح، جاهد أن تموتَ من كلِّ الناسِ وأنت تخلص، قل لفكرِك إني قد مُتُّ ووضعتُ في القبرِ، فماذا لي مع الأحياءِ، وبذلك لن يقدرَ على أن يحزنَك. إن الطاعةَ مطفِئةٌ لجميعِ سهامِ العدوِ المحماة، وأما المحبةُ فهي الدرود العظيمة (أي الأربطة) والعصائب التي تشدد كلَّ استرخاءٍ وتشفي كلَّ الأمراضِ«.
كما قال: »شابٌ لا ينفعُ شاباً، حتى ولو سقاه بكأسٍ جميعَ تعليمِ الكتبِ الإلهيةِ، فلن ينتفعَ منه«. كذلك قال: »الجلوسُ في القلايةِ، إنما هو الدخولُ إلى القلبِ وتفتيشه، وضبطُ الفكرِ من كلِّ شيءٍ رديءٍ، وقطعُ الهوى وتركُ تزكيةِ الذات، والابتعادُ من مرضاةِ الناس. الخلاصُ يحتاج إلى تعبٍ كثيرٍ واجتهادٍ، فلا تسترخِ للجسدِ لئلا يصرعك«.
وقال أيضاً: »النسيانُ هو هلاكُ النفسِ، وينتجُ من التهاونِ، فالذي يُكلِّف نفسَه في كلِّ شيءٍ فإنه ينجحُ، والذي لا يقيمُ هواه ولا يلاجج بكلمةٍ فإنه يستريحُ، والذي يلومُ نفسَه في كلِّ شيءٍ فإنه يجدُ رحمةً أمامَ اللهِ إلهِنا«.
وقال أيضاً: »اقتنِ الاتضاعَ فإنه يكسرُ جميعَ فخاخِ العدو«. وقال كذلك: »إن غَلَبَ الإنسانُ باللهِ التجربةَ الأولى، فلن يقوى عليه العدو فيما بعد، أما إن غُلِب في التجربةِ الأولى، فإن العدوَ متى أراد أتى به إلى عبادةِ الأصنامِ فأضلَّه عما سواها«.
قال أنبا تيموثاوس: »إذا أكرمك الناسُ فخف جداً، واكره نفسَك وحدَك، ولا تستحِ أن تُقرَ بذنوبك، واهرب من كرامةِ الكثيرين، لئلا يُغرقوا مركِبَك«.
وقال أيضاً: »إذا أنت سقطتَ فلا تتوانَ، ولا تكسل، بل قم بسرعةٍ. وإذا ضللتَ أسرع بالرجوعِ إلى خلف حتى تجدَ الطريقَ المستقيمةَ، لأن الطريقَ المستقيمةَ حسنةٌ جداً وليس فيها دوران، ولا تحتاج إلى طولِ الزمانِ، بل بسرعةٍ تصل إلى مدينةِ السلامِ«.
كما قال: »لا توجد طريقٌ مستقيمةٌ، سوى طريقِ ربنا يسوع المسيح، لأنه هو الطريقُ والحقُ والحياة«.
قال أنبا باخوميوس: »جميعُ المواهبِ بطولِ الروحِ وثباتِ القلبِ تُعطى، وجميعُ القديسين لما ثبَّتوا قلوبَهم نالت أيديهم المواعيد. فَخْرُ القديسين هو طولُ الروحِ في كلِّ شيءٍ، وبهذا حُسبوا قديسين«.
وقال أيضاً: »هذه هي الأعمالُ الفاضلةُ: إن قاتلك فكرُ ضجرٍ من أخيك، فعليك باحتمالِه بطولِ روحٍ، حتى ينيِّحَك اللهُ فيه، صبرٌ على صومٍ دائمٍ، صلاةٌ بغيرِ فتورٍ في مخادعِ قلبك بينك وبين اللهِ، وصيةٌ صالحةٌ لأخيك، بتوليةٌ محفوظةٌ في أعضائِك، طهارةٌ وقدسٌ في قلبك، عنقٌ منحنٍ، وضربُ مطانيةٍ مع قولك: اغفر لي، دِعةٌ في أوان الغضبِ«.
كما قال: »احفظ نفسَك من هذا الفكرِ الذي يجلِبُ عليك تزكيةَ ذاتِك، وازدراءَ أخيك، لأنه مبغوضٌ جداً قدام الله ذلك الإنسان الذي يُكرم نفسَه ويرذل أخاه«.
كذلك قال: »لن تشاركَ القديسينَ في مواهبهم، ما لم تُتعب جسدَك أولا في مشاركةِ أعمالِهم، كذلك لن تدخلَ الحياةَ، إن لم تُضيِّق على نفسِك أولاً حتى الموت«.
وقال أيضاً: »ليس لنا عذرٌ نقوله قدام الله إذا وقفنا بين يديه، هل نقول: لم نسمع أو لم نعرف أو إنهم لم يعلِّمونا؟ هو ذا الكتب موجود فيها معرفة كلِّ شيءٍ«.
قال أنبا أثناسيوس: »اهتم بعملِ الخيرِ حسب قوتك من أجلِ اللهِ، لا سيما مع المسيئين إليك ومبغضيك، لكي تغلبَ الشرَّ الذي فيهم من نحوِك«.
قال الأنبا تيموثاوس: »من احتمل عدوَّه عند شتمِهِ إياه، فهو قويٌ وحكيمٌ، أما من لا يحتمل الشتيمةَ، فلن يحتملَ الكرامةَ كذلك، لأن الشتيمةَ أقلُ ضرراً من الكرامةِ«.
قال القديس مقاريوس: »احفظوا ألسنتكم، وذلك بأن لا تقولوا على إخوتكم شراً، لأن الذي يقول عن أخيهِ شراً، يُغضب الله الساكن فيه، ما يفعله كلُّ واحدٍ برفيقِهِ، فباللهِ يفعله».
وقال أيضاً: »احفظوا ذواتَكم من كلامِ النميمةِ والوقيعةِ، لكي تكونَ قلوبُكم طاهرةً، لأن الأذنَ إذا سمعت الحديثَ النجسَ، فلا يمكن أن تحفظَ طهارةَ القلبِ بدونِ دنسٍ«.
وقال أيضاً: »لا تطاوع مشورةَ الشياطين الأنجاس، إذا حدَّثوك بخداعٍ قائلين: إنَّ اللهَ لا يؤاخذك بخصوصِ هذا الأمرِ اليسير، أو هذه الوصيةِ الصغيرةِ، إن توانيتَ فيها. بل اذكر أنَّ كلَّ معصيةٍ كبيرةٌ كانت أم صغيرة، فإنها تُغضبُ الله«.
قال أنبا بفنوتيوس: »كثيرون يجعلون نفوسَهم وحدَهم مؤمنين باللسانِ لا بالعملِ، وبالكلامِ يتظاهرون بأنهم قائمون، وليس لهم شيءٌ من الأعمالِ البتةِ، ويفتخرون باطلاً بما لم يصلوا إليه«.
قال أنبا أفرآم: »لأيِّ شيءٍ رفضتَ العالمَ إن كنتَ تطلبُ نياحَ العالمِ، للضيقِ دعاكَ اللهُ الكلمةُ، فكيف تطلبُ نياحاً؟ للعُري دعاك، فكيف تتزين باللِباسِ؟ للعطشِ دعاك فكيف تشربُ خمراً«.
قال شيخٌ: »شابٌ يتنزَّه دفعاتٍ كثيرةً، فقد صار سيفاً لنفسِه وحده«.
وقال آخرُ: »إذا لم ينم الشابُّ وهو جالسٌ، مادامت له استطاعةٌ في جسدِه، فإنه عاجزٌ مقصرٌ. وكلُّ شابٍّ يرقدُ على ظهرِه بقِلةِ همٍّ، فإنه يوقظُ الأوجاعَ المهينةَ في جسدِه، وأيُّ شابٍّ يحبُ الراحةَ والنياحَ، فإنه لا يفلت من الخطيةِ، كذلك الشابُّ الكسلانُ لا يقتني شيئاً من الحسناتِ«.
من كلامِ مار إسحق: »بأمرين يصنعُ الجسدُ نياحَه بحماقةٍ، مسبباً للنفسِ أتعاباً ومشقةً ورواميز (أي اضطرابات) عظيمةً للفكرِ. أما هذان الأمران، فأولهما: عدمُ ضبطِ البطنِ غير المخضعة لتجلدِ الصومِ، وثانيهما: عدمُ ترتيبِ الأعضاءِ التي تعطي دالةً للنظرِ والمجسةِ العديمة التعفف، الذي منه يحدثُ فسادُ هيكلِ اللهِ بتوسطِ الأفكارِ الطائشةِ في الأباطيلِ«.
وقال أيضاً: »تَحَكَّم قبالة مسببات الآلام، فتهدأ عنك الآلامُ من ذاتِها«.
كما قال: »العفةُ في وسطِ النياحاتِ لا تثبتُ بغيرِ فسادٍ، كما أن الجوهرةَ في وسطِ النارِ لا يُحفظُ شُعاعُها بغيرِ فسادٍ«.
وقال كذلك: »خمسُ فضائل بدونِها جميعُ طبقاتِ الناسِ لا يمكنهم أن يكونوا بلا لومٍ، وإذا حفظها الإنسانُ، تَخَلَّص من كلِّ مضرةٍ، وصار محبوباً عند اللهِ والناسِ، وهي: جسدٌ عفيفٌ، لسانٌ محترسٌ، زهدٌ في الرغبةِ والشَرَه، كتمانُ السرِّ في سائرِ الأشياءِ بغرضٍ مستقيمٍ إلهي، وإكرامُ كلّ طبقاتِ ومراتبِ الناسِ، فوق ما يستحق ذلك الوجه، لأن الذي يُكرمُ الناسَ، يُكرَم هو أيضاً منهم، كما يأخذُ المجازاةَ من اللهِ، لأن الكرامةَ توجِبُ كرامةً، والازدراءَ يجلبُ ازدراءً، والذي يُكرمُ اللهَ يُكرَمُ هو أيضاً منه«.
وقال أيضاً: »يسقطُ في الظنونِ الرديئةِ السمجةِ، كلُّ إنسانٍ مُستعبَد للأربعةِ الآلامِ الآتية: جسدٌ شغبُ (شهواني)، رغبةٌ في أشياءٍ جسديةٍ، لسانٌ قاسٍ، نقلُ الكلامِ من واحدٍ إلى آخرِ بنوعِ المثلبةِ. كما أن الذي يتخلى اللهُ عنه لأجلِ تعظمِه يسقطُ في واحدٍ من ثلاثةِ أنواعٍ من الخطيةِ هي: إما في فسقٍ سمجٍ، وإما في ضلالةٍ شيطانية، وإما في أذيةٍ عقلية«.
كما قال: »كما أن الموادَ الدُهنيةَ تزيدُ النارَ اضطراماً، هكذا طراوةُ المآكلِ تنمي ألمَ الزواجِ. معرفةُ اللهِ لا تسكنُ في جسدٍ محبٍ للراحةِ، وأيُّ إنسانٍ يحبُ جسدَه، لا يُؤهَّلُ لمواهبِ اللهِ، كما يُشفقُ الأبُ على ابنِه، هكذا يشفقُ المسيحُ على الجسدِ العمَّالِ، وفي كلِّ وقتٍ قريبٌ من فمهِ«.
وقال كذلك: »من يشتهي الروحانيات، حتماً يُهمِلُ الجَسَدَانيات، احذر من حياةِ الخُلطةِ، لأنها تعوقُ سائرَ أنواعِ التوبةِ، التخاطب مع كثيرين يعوقُ الحزنَ الذي من أجلِ اللهِ، ليس شيءٌ محبوبٌ لدي الله، وسريعٌ في استجابةِ طلباتهِ، مثل إنسانٍ يطلبُ من أجلِ زلاتهِ وغفرانِها. الذي يحبُ الكرامةَ لا يستطيعُ أن ينجوَ مِن عِلَلِ الهوانِ. كلُّ إنسانٍ تدبيرُهُ رديءٌ حياةُ هذا العالمِ شهيةٌ عنده، ويليه بعد ذلك من هو قليلُ المعرفةِ، وحقاً لقد قيل إنَّ مخافةَ الموتِ تُرعِبُ الرجلَ الناقصَ، أما الذي في نفسِه شهادةٌ صالحةٌ فإنه يشتهي الموتَ كالحياةِ«.
شيخٌ مَدَحته أفكارُه لأجلِ أعمالٍ قد صنعها من قبل، قائلةً له بأنه قد أُهِلَ للرجاءِ وعدم الفسادِ مثلاً، فأجاب الشيخُ أفكارَه قائلاً: »إني لا زلتُ سائراً في الطريقِ، وباطلاً تمدحونني، لأني لم أصل بعدُ إلى نهايةِ الطريقِ«.
وقال أيضاً: »متى داخلتك شهوةُ اهتمامٍ بغيرِك بنوعِ الفضيلةِ، حتى يتشتت ما في قلبك من السكونِ، فقل: إن طريقَ المحبةِ والرحمةِ لأجلِ اللهِ مقبولةٌ، ولكني من أجلِ الله كذلك لا أريدُها«. وقد حدثَ أن قال راهبٌ: »إن لم تقف لي من أجلِ اللهِ، أجري خلفك«. فقلتُ له: »وأنا من أجلِ اللهِ كذلك أهربُ منك«.
سؤال: «متى يثقُ الإنسانُ بأنه استحق وأُهِّلَ لمغفرةِ الخطايا»؟
الجواب: »إذا ما أحسَّ في نفسهِ بأنه قد أبغضها بالكمالِ من كلِّ قلبه، وبدأ يصنع ما يضاد تصرفَه الأول بالظاهرِ والخفي، فمن هو هكذا، فله ثقةٌ بغفرانِ خطاياه من اللهِ، وذلك بشهادةِ الضميرِ التي قد اقتناها في نفسِه، حسب قول الرسول: لأن القلبَ الذي لا لومَ فيه، هو الشاهدُ على نفسهِ«.
قال شيخٌ: «إذا أردتَ أن تُرضيَ اللهَ، فَنَقِّ قلبَك من جميعِ الناسِ، وضع ضميرَك تحتَ كلِّ الخليقةِ، ولا تدن أحداً، واجعل فكرَك في اللهِ، وإذا أبصرتَ أحداً يخطئ، صلِّ للهِ قائلاً: اغفر لي فإني أنا الذي فعلتُ هذه الخطيةَ. فتتم فيك الكلمةُ المكتوبةُ: ما من حبِّ أعظمُ من هذا أن يضعَ الإنسانُ نفسَه عن رفيقِه».
قال أنبا يوسف: «نحن معشر إخوة هذا الزمان نأكل وننيح الجسدَ، من أجلِ هذا لا ننمو مثل آبائنا، لأن آباءنا كانوا يُبغضون جميعَ نياحِ الجسدِ، ويحبون كلَّ الضيقاتِ من أجلِ اللهِ، ولهذا اقتربوا إلى اللهِ الحي».
قال شيخٌ: «كلُّ موضعٍ تمضي إليه، فاحرص ألا تجعلَ ذاتَك من أهلِ ذلك الموضعِ».
قال أنبا بولا الساذج: «من هرب من الضيقةِ فقد هرب من اللهِ».
قال شيخٌ: «إما أن تجعل نفسَك في وسطِ الناسِ بهيمةً، وإما أن تهربَ، ولا تدعهم يلحقون بك».
قال أنبا بطرا: «الإمساك الذي هو أفضل من إمساك البطنِ، والذي يجب أن تغصبَ نفسَك إليه هو هذا: أن لا تأكلَ لحمَ إنسانٍ ولا تشربَ دمَه بالوقيعةِ».
قال أنبا إبراهيم: «إذا حملتَ نيرَ المسيحِ، فانظر كيف تمشي فيه، لا ينبغي لك أن تخلطَ عملَ الدنيا بعملِ المسيحِ، لأنهما لا يجتمعان معاً، ولا يسكنان كلاهما في موضعٍ واحدٍ. لا تسلك في الطريقِ الواسعةِ، لأن كثيرين سلكوا فيها فضلُّوا وذهبت بهم إلى الظلمةِ، حيث النار المعدَّة، ولكن اسلك طريقَ الحقِ والصوابِ، فإنها وإن كانت ضيقةٌ حزينةٌ ضاغطةٌ، لكنها تُخرِجُ إلى السعةِ والحياة، والنعيمِ الدائمِ. لا تبنِ جسدَك بالنعيمِ واللِباسِ، مثل البيوت المزخرفة، التي تؤول إلى الهدمِ والهلاكِ، ولكن ابنِهِ بالتوبةِ والأعمالِ المُرضيةِ للهِ على الأساسِ الوثيقِ، الذي بنى عليه القديسون: بمشيٍ هينٍ، وصوتٍ لينٍ، ولِباسٍ حقيرٍ، وطعامٍ يسيرٍ، وحبٍّ تامٍ، وطاعةٍ واتضاع، وحسياتٍ نقيةٍ».
التقى سائحٌ بسائحٍ آخر في بريةِ سيناء، فسأله: «بماذا يكون الخلاصُ»؟ قال له: «بالمعرفةِ بحقائقِ الأمورِ والعمل بحسبِ الحقِ». قال له: «إذن فمن لا يعرف لا يخلص»؟ قال: «لا». فقال: «وما هي المعرفةُ إذن»؟ قال: «أن يعرفَ العبدُ حقيقةَ خالقِهِ، ومِمَ خلقه، وما يؤول إليه أمرُه، فإذا عرف ذلك، فإنه لن يعصيه، بل سوف يصنع مرضاته طول حياته». فقال: «صدقتَ»، ثم انصرف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق