الأحد، 20 مايو 2012

زهور من بستان الرهبان 19




زهور من بستان الرهبان 19

 
قال ديادوخس: «لا يقدر إنسانٌ أن يقتني خوفَ اللهِ إلا إذا أحبَّ خصالاً وأبغضَ خصالاً أخرى، وذلك إذا أراد أن يكونَ راهباً حقاً». قالوا له: «وما هي الخصالُ التي تُحَب»؟ قال: «هي الشجاعةُ في غلبةِ الأهواءِ المظلمةِ، المحبة، العفة، العلم، الاتضاع، المسكنة، الرحمة، حسن الحديثِ ولينه، الصبر، السهر، التعب، الطاعة، وما أشبه ذلك مما يُرضي الله، فمن كانت له هذه الخصال رَجَوتُ له الخلاصَ». فقالوا له: «وما هي الخصالُ التي تُبغَض»؟ قال: «الشَرَه، الفسق، الحقد، اللجاجة، الرياء، الكذب، النميمة، الحسد، الشر، العجز، الضجر، التواني، الغفلة، البذخ، التيه، العظمة، العُجب، الصلف، وما أشبه ذلك».
قال شيخٌ: «الذي يُحقِّر نفسَه من أجلِ الربِّ، يَهَبه الحكمةَ والمعرفةَ، لسنا في احتياجٍ إلا إلى قلبٍ حريصٍ. طوبى لمن يصبرُ على هذه الثلاثة بشكرٍ وهي: أن لا يأكلَ حتى يجوع، ولا ينامَ حتى ينعس، ولا يتكلمَ حتى يُسأل».
من أقوالِ أنبا يعقوب: «مثل المصباحِ الذي ينير البيتَ المظلمَ، كذلك خوفُ اللهِ إذا دخل في قلبِ الإنسانِ، فإنه يضيئه ويعلمه جميعَ الوصايا».
تحدَّث الآباءُ عن شيخٍ أُخذت روحُهُ، وبعد ساعةٍ رجعت إليه، فسألوه: «ماذا أبصرتَ يا أبانا»؟ فقال وهو يبكي: «سمعتُ هناك قوماً يقولون وهم باكين: الويل لي، الويل لي».
قال شيخٌ: «من مدح راهباً بحضرتِهِ، فقد أسلمه بأيدي أعدائه».
قال أنبا بيمين: «إذا ذَكر الإنسانُ الكلمةَ المكتوبة: إنه من كلامِك تدان، ومن كلامِك تتزكى، فإنه يختار لنفسِه السكوتَ».
وقال أيضاً: «مثل الدخانِ الذي يطرد النحلَ حتى يقطفوا العسلَ، كذلك نياحُ الجسدِ، يطرد خوفَ اللهِ، ويُتلِف كلَّ عملٍ صالحٍ».
أبصرَ أنبا أنطونيوس فخاخَ الشياطين مبسوطةً على الأرضِ كلِّها، فتنهد وقال: «يا ربُّ، من يفلتُ من كلِّ هذه»؟ فأتاه صوتٌ من السماءِ قائلاً: «المتضعون يفلتون منها».
كان شيخٌ جالساً في البريةِ، وكان بينه وبين الماءِ الذي يستقي منه اثنا عشر ميلاً، فذهب مرةً ليستقي، فضجر وقال لنفسِه: «لماذا أعاني هذا التعب؟ فلأذهب وأسكن بقربِ الماءِ». وفيما هو يفكر في هذا الأمرِ، التفتَ إلى خلفِه، فأبصر شيخاً يَعُدَّ خُطاه، فسأله: «من أنت»؟ فقال له: «إني ملاكُ الربِّ، أرسلني لأَعدَّ خُطاكَ، لكي يعطيك أجرَ تعبك». فلما سمع الشيخُ ذلك، طابت نفسُه، وزاد على المسافةِ خمسة أميال أخرى.
قال شيخٌ: «إن قوَّمتَ الصمتَ، فلا تظن في نفسِك أنك قد قوَّمت شيئاً، ولكن اعتبر ذاتَك أنك لستَ أهلاً لأن تتكلم».
قال أنبا أنطونيوس: إني أبصرتُ مصابيحَ من نارٍ محيطةً بالرهبانِ، وجماعةً من الملائكةِ بأيديهم سيوفٌ ملتهبةٌ يحرسونهم، وسمعتُ صوتَ اللهِ القدوس يقول: «لا تتركوهم ما داموا هم مستقيمي الطريقةِ». فلما أبصرتُ هذا ، تنهدتُ وقلتُ: «ويلك يا أنطونيوس، إنَّ كلَّ هذا العونِ محيطٌ بالرهبانِ، والشياطين تقوى عليهم»! فجاءني صوتُ الربِّ قائلاً: «إن الشياطينَ لا تقوى على أحدٍ، لأني من حينِ تجسَّدتُ، سحقتُ قوَّتهم عن البشريين، ولكن كلّ إنسانٍ يميلُ إلى الشهواتِ، ويتوانى بخلاصِه، فشهوتُه هي التي تصرعه وتجعله يقع». فصحتُ وقلتُ: «الطوبى لجنسِ الناسِ وبخاصةٍ الرهبان، لأن لنا سيداً هكذا رحوماً ومحباً للبشرِ».
قال الشيوخُ: «إن للشيطانِ ثلاثَ خصالٍ قويةٍ، وهي تتقدم كلَّ خطيةٍ، وهي، النسيان، التواني، الشهوة. ومن الشهوةِ يقعُ الإنسانُ. فإن انتبه العقلُ ولم ينسَ، فلن يجيءَ إلى التواني، وإن هو لم يتوانَ، فلن يأتي إلى الشهوةِ، وإن هو لم يشتهِ، فلن يقع بنعمةِ ربنا يسوعَ المسيحِ».
سأل أخٌ الأنبا بيمين قائلاً: «كيف ينبغي أن يكونَ الراهبُ الساكنُ في الكنوبيون»؟ فأجابه الشيخُ قائلاً: «إن الذي يسكن في الكنوبيون، ينبغي أن يكونَ جميعُ الإخوةِ عندَه واحداً في المحبةِ، وأن يحفظَ لسانَه وعينَه، وحينئذ يكونُ في راحةٍ».
سأل أخٌ شيخاً: «ماذا يصنعُ الإنسانُ في بليةٍ تأتي عليه»؟ فأجابه: «ينبغي له أن يبكيَ قدام الله، ويطلبَ منه أن يعينه كالمكتوب: إن الربَّ عوني فلا أخشى، ماذا يصنعُ بي الإنسانُ».
قال مار باسيليوس: «ماذا ينفعُني إذا أتممتُ الفضيلةَ كلَّها، ثم أقول لأخي: يا أحمق، فأكون قد استوجبتُ جهنم، هو ذا السليح يعقوب يقول: إن تمَّم الإنسانُ الناموسَ كلَّه وأخطأ في أمرٍ واحدٍ، فهو في الكلِّ مُدانٌ. لن تستطيع إدراكَ شيءٍ من مُرضاةِ الله بغير الاتضاع، فلا تفرِّغ أفكارَك في استقصاءِ عيوبِ الناسِ وخطاياهم، ولكن تفرَّغ لتفتيش عيوبَك وخطاياك».
قال شيخٌ: «إن كان الراهبُ حريصاً مجاهداً بالحقيقةِ، فإن اللهَ لا يشاءُ له أن يكونَ مرتبطاً البتةً بشيءٍ من متاعِ هذه الدنيا، حتى ولا بإبرةٍ صغيرةٍ، لئلا تفصلَ فكرَه من ذِكر ربنا يسوعَ المسيحِ، وتُشغلَه عن التوبةِ عن خطاياه. كلُّ إنسانٍ قد ذاق حلاوةَ المسكنةِ، فإنه يستثقلُ الثوبَ الذي يلبسه، والكوزَ الذي يشرب فيه الماءَ، لأن عقلَه قد اشتغل بأشياءٍ أخرى روحانية، الذي لم يُبغِض بعدُ متاعَ الدنيا، كيف يقدرُ أن يُبغِضَ نفسَه، كما قال السيدُ»؟
وقال أيضاً: «ويحٌ لنفسٍ قد اعتادت أن تسألَ عن كلامِ اللهِ، وتسمعه ولا تعمل شيئاً بما تسمع».
وقال أيضاً: «ويحٌ لشابٍّ يملأ بطنَه ويصنعُ هواه، لأن رهبانيته وتلمذته وكلَّ تعبهِ يكونُ باطلاً».
قال شيخٌ: «إن كان إنسانٌ يُجرِّبه إبليسُ بأوجاعِ الخطيةِ، ويبكي وينوح لذلك بين يدي الله، فإن اللهَ يشتاقُ إليه، لأن التنهدَ قادرٌ أن يحلَّ الخطيةَ، والبكاءَ يغسلُ الذنوبَ».
قال أنبا زينون: «إن كنتَ تريدُ أن تقطعَ عروقَ شيطانِ الزنى، وتهلكه عنك، فكف فمَك عن دينونةِ الناسِ كلّهم، ولا تقع بواحدٍ من ورائه، وقِر بخطاياك دائماً، فهذا هو عونٌ لك وسلاحٌ قوي، أما إن أسلمتَ نفسَك لكثرةِ الكلامِ، فإن الملاكَ الذي معك يتنحى عنك، ويلتقي بك الشياطين أعداؤك، ويُمَرِّغونك في دنسِ الخطيةِ. ليس شيءٌ يُصَيِّرنا مثلَ الله، سوى عدم الحقدِ، وأن نكونَ بلا شرٍّ قبالة الذين يسيئون إلينا».
من أقوال أنبا نيلس، قال: «احتفظ بأبوابِ السمعِ، وأفضل منها بأبوابِ العينين، فقد اعتادت سهامُ الشرِّ الدخولَ من هذه الأبوابِ. احتفظ بالإمساكِ، كي ما تضع حركاتَ الجسدِ، فإن مَرِضَ فعزِّه حتى يجيءَ إلى الصحةِ، دون أن تلازمَ اللَّذات. صلِّ ألا تأتيك البلايا، فإن أتتك، فتصبر لها. أنت تحب أن تعملَ الفضيلةَ بلا تعبٍٍ، ولكن اعلم أن التعبَ إنما لزمنٍ قصيرٍ، أما الأجرُ فيدومُ إلى الأبدِ. لا تحوِّل وجهَك عن دموعِ المسكينِ، لئلا تُحتقرَ دموعُك في زمنِ الشدةِ، إن أمسكتَ بطنَك، اضبط أيضاً لسانَك، لئلا يكونَ الواحدُ عبداً والآخرُ حراً بلا منفعةٍ. إن أحببتَ السمائيات، فما لك والأرضيات التي تمنعك عن أن تطيرَ نحو السمائيات. إنْ دِنَّا أنفسَنا، رضيَ الديانُ عنا، لأنه يفرحُ مثل صالحٍ، إذا هو أبصرَ الخاطئَ (يتوب) فيطرح عنه حزمَتَه (أي ثقل خطاياه). إن كنا قد فعلنا أمراً نجساً، فلنغسلَه بالتوبةِ. تنهد على قريبك إنْ هو أخطأ، كما تتنهد على نفسِك، لأننا كلَّنا تحتَ الزللِ. لتكن الصلاةُ بيقظةِ العقلِ، لئلا تطلبَ من اللهِ أموراً لا يهواها. إذا صليْتَ، اصعد بأفكارِك إلى اللهِ، وإن هي نزلت ودارت فارفعها أنت أيضاً. اصبر للأحزانِ، لأن بها يأخذُ المجاهدون الأكاليلَ. ما ألذُّ وأطيبُ خبزَ الصومِ، لأنه معتوقٌ من خميرِ الشهواتِ. إن عملتَ بيديك، فليكن اللسانُ مزمِّراً، والعقلُ مصلياً، لأن اللهَ يحبُ أن تذكرَه دائماً أبداً. ينبغي أن تتكلمَ بالحسناتِ لكي ما تبدأ بالأعمالِ، حيث تستحي من الكلامِ. طهِّر النفسَ بالدموعِ في الصلاةِ، ولكن بعدَ الصلاةِ، اذكر لماذا كانت الدموعُ. لا تختلط بالذي تراه يتباعد من الصالحين. أعطِ البطنَ ما يقوته، لا ما يهواه. لا تحب التنعمَ، لأنه يجلبُ حبَّ العالمِ. أُمُّ الشرِّ هي التواني بالخيرات. لا تبغض المسكنةَ لأنها تُصيِّر المقاتلَ بلا همٍّ. لا تفرح بالغنى لأن الاهتمامَ به يُبعدُ الإنسانَ عن اللهِ وهو كارهٌ. لا تغفل عن أن تصنعَ رحمةً، ولا تحب أن تستغني عن طريقِ ضيافةِ الغرباءِ. داوم أبداً على تلاوة المزامير، لأن ذِكرَها يطردُ الشياطين. اعتبر الصومَ حصناً، والصلاةَ سلاحاً، والدموعَ غسيلاً. إن شُتمتَ تَفَكَّر إذا كنتَ قد فعلتَ ما تستأهل بسببهِ الشتيمة، فإن كنتَ قد فعلتَ، فاحتسب الشتيمةَ بمنزلةِ المجازاة، وإن كنتَ لم تعمل، فلتكن عندك شبهَ الدخانِ. الطريقُ التي توصِّل إلى الفضيلةِ، هي الفرارُ من العالمِ. الذي لا يُبغضُ الخطيةَ، مع الخاطئين يُدان ولو لم يكن قد فعلها. إذا نظرنا في أمورِ أنفسنا، فلن ندين آخرين. أمورٌ كثيرةٌ هي فينا، ونحن نلومُ بها غيرَنا. إن كان لك غنى بدِّده، وإن لم يكن لك، فلا تجمع. اصنع الخيرَ بالمساكين، فإنهم يُرضون الديانَ عوضاً عنك. إن شربتَ الشرابَ فقلِّل منه، لأن قِلَّته تنفعُ شاربه. أظهر إسكيمَ الفضلِ، لا لكي تَخدعَ، ولكن لكي تنفعَ الناظرين. كن في الكنيسةِ مثلَ من هو في السماءِ. امشِ ولا تتكلم، ولا تحب الأرضيات. على من يخطئ احزن، لا على من يتمسكن، لأن هذا مُكَلَّلٌ، وذاك يُعذَّبُ. ويلٌ للظالمِ لأن غناه يفرُّ منه، وتلقاه نارٌ لا تُطفأ. ويلٌ للمتوانين، لأنهم يتمنون الزمانَ الذي غفلوا فيه فلا يجدونه. ويلٌ لمحب الزنى، فإنه يخرجُ من عرشِ الملك وهو مخزيٌ. ويلٌ للمحتالِ والسكرانِ، فإنهما يدانان مع القتلةِ والزناةِ. ويلٌ للذي يأخذُ بالوجوهِ، فإن الراعي يجحده والذئابُ تفترسه. طوبى للذي يسلكُ الطريقَ الضيقةَ الحزينةَ، فإنه يفرحُ ويدخلُ إلى السماءِ وهو مُكلَّلٌ. طوبى لمن اقتنى أمراً رفيعاً، وفكراً متضعاً، فإنه يتشبه بالمسيحِ، ومعه يجلسُ في الملكوتِ. طوبى لمن ألزمَ لسانَه للناموسِ، فإن اللهَ لا يفارقه في مسكنِه. طوبى لمن بدَّد السيئات التي جمعها، فإنه يقوم قدام الديان مُزكى».
قال شيخٌ: «أنا قلتُ لنفسي يوم خروجي من العالم: إني اليومَ وُلدتُ، واليوم بدأتُ بعبوديةِ الربِّ. كذلك كن كلَّ يومٍ بمنزلةِ الغريب، الذي يترجّى الرجوع بالغداةِ».
لقي أنبا جراسيموس امرأةً في البريةِ عريانةً، فلما أبصرته توارت عنه، لكنه أراد أن يكلِّمها، فتوارت خلفَ صخرةٍ وكلَّمته. فقال لها: «كم لكِ في هذه البريةِ»؟ قالت: «خمسون سنةً». قال لها: «ماذا كان غذاؤكِ»؟ قالت: «إن الخالقَ لا يُضيعُ ما خلق». قال لها: «فماذا أبصرتِ في هذه البريةِ»؟ قالت: «ما أبصرتُ غيرَ المسيحِ وأعماله وصنائعه». قال لها: «ففيما الخلاص»؟ قالت: «في تركِ ما أنت فيه». قال لها: «وما هو»؟ قالت: «شغلك بالبكاءِ على خطاياك، أولى من سؤالك امرأةٍ عما لا ينفعك». قال لها: «صدقتِ»، وعمل مطانية، وانصرف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق